بعد هدوء دام ما يقارب 5 سنوات، تشهد مناطق الشمال السوري تصعيدا عسكريا متسارعا إثر قيام فصائل المعارضة السورية بهجوم مفاجئ الأربعاء 27 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري على مواقع الجيش في ريف حلب الغربي.

وأسفرت العملية التي أطلق عليها “ردع العدوان” عن سيطرة المعارضة على مساحات شاسعة من ريفي حلب الغربي وإدلب الشرقي خلال أقل من 48 ساعة على بدء الهجوم.

وشكّلت المعارضة غرفة “إدارة العمليات العسكرية” مع بداية الهجوم، وتضم هيئة تحرير الشام وأخرى من الجيش الوطني السوري التابع للمعارضة، إضافة إلى عدد من فصائل المعارضة في إدلب.

وقالت إن الهجوم يأتي في إطار كبح جماح النظام الذي يهدد ببدء عمل عسكري على محافظة إدلب، ويصعّد القصف عليها بالمدفعية والصواريخ والطائرات الملغمة.

وكانت آخر اشتباكات شهدتها هذه المناطق في مارس/آذار 2020 بعد توقيع اتفاقية “سوتشي” بين تركيا وروسيا، إلا أنها كانت تشهد بين الحين والآخر خروقات من قِبل الحكومة السورية وروسيا، تؤدي إلى وقوع ضحايا أغلبهم مدنيون.

واليوم تأتي هذه العملية في ظروف دولية وإقليمية متداخلة، إثر التصعيد الإسرائيلي في المنطقة، وكانت سوريا إحدى ساحاته عبر استهداف المواقع التابعة لإيران وحزب الله.

أهداف متعددة

وحددت فصائل المعارضة السورية الأهداف العامة من هذه العملية والمتمثلة بكسر مخططات النظام عبر توجيه ضربة استباقية مدروسة لمواقع قواته والمليشيات التابعة له.

وأكد الناطق باسم غرفة “العمليات العسكرية” القيادي حسن عبد الغني أن الدفاع عن المدنيين في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة “ليس خيارا بل هو واجب”، مشددا على أن “هدفهم الثابت هو إعادة المهجرين إلى ديارهم”.

لكن التطورات الميدانية المتلاحقة، والتقدم المستمر لقوات المعارضة يشير إلى أن هناك أهدافًا أكبر من تلك التي تم الإعلان عنها، وفي هذا السياق يقول قائد حركة أحرار الشام عامر الشيخ عبر صفحته على منصة إكس إن عملية ردع العدوان مستمرة حتى تحقيق أهدافها المتمثلة بوقف اعتداءات النظام، وإبعاد خطر المليشيات الإيرانية عن مناطق سيطرة المعارضة، وتهيئة الظروف المناسبة لعودة الناس إلى أرضهم بأمان.

وبحسب مراقبين فإنه يمكن رسم الأهداف العامة لهذه العملية بتوسيع مناطق سيطرة المعارضة، وتأمين عودة المدنيين إلى منازلهم وتخفيف الضغط السكاني الهائل على باقي المناطق، إلى جانب تحييد سلاح المدفعية والطائرات المسيّرة التي تستهدف المدنيين في مناطق المعارضة.

وبحسب فريق “منسقو استجابة سوريا” فإن أرياف حلب وإدلب تعرضت منذ بداية العام الجاري وحتى 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لأكثر من 256 هجوما بـ874 طائرة مسيّرة انتحارية من قوات الجيش السوري، أدت لمقتل 34 مدنيا وإصابة 88، من بينهم نساء وأطفال.

من ناحيته، يرى المحلل الإستراتيجي العقيد أحمد حمادة في حديثه مع الجزيرة نت أن الهدف الجغرافي من هذه العملية مفتوح لأن الواقع الميداني هو من يحكمه من جهة، ولأن الفصائل التي شنت هذا الهجوم لم تعلن هدفها النهائي من هذه العملية من جهة أخرى، إذ قد يشمل كل مناطق خفض التصعيد التي تم الاتفاق عليها عام 2017، والتي تمتد إلى منطقة مورك في ريف حماة الشمالي، وقد يتوسع لتشمل مدينة حلب أيضا.

وبالإضافة إلى الدفاع عن المناطق المحررة، التي كانت تتعرض لاستهدافات متكررة من الحكومة السورية وحلفائها عن طريق القصف المدفعي أو الجوي أو حتى عبر الطائرات المفخخة في الآونة الأخيرة، يبدو واضحا أن هناك أهدافًا سياسية لهذه العملية تتمثل بتحريك الملف السوري، وإعادة الاهتمام الدولي به، بعد حالة الجمود التي مرَ بها خلال السنوات الست الماضية، وذلك بحسب العقيد حمادة.

تطورات ميدانية متسارعة

قد يكون التقدم الميداني المتسارع، والسيطرة على مواقع جديدة لقوات الجيش السوري من أبرز ما يميز هذه العملية، إذ استطاعت قوات المعارضة في الساعات الأولى من إطلاق العملية السيطرة على مواقع وتلال مهمة في ريف حلب الغربي أبرزها الشيخ عقيل وعنجارة و”الفوج 46″ الإستراتيجي.

وبذلك تكون مساحة المنطقة التي سيطرت عليها المعارضة في اليوم الأول للعملية وصلت إلى 245 كيلومترا مربعا، وأصبحت على بُعد 5 كيلومترات من مدينة حلب، إلى جانب مقتل العشرات من قوات النظام، واغتنام العديد من الأسلحة والمدافع منها مستودع صواريخ “كورنيت”، وذلك بحسب غرفة “إدارة العمليات العسكرية”.

واختتمت فصائل المعارضة مواجهات اليوم الثاني محققة تقدّما سريعا ولافتا على مختلف جبهات ريف حلب الغربي والريف الشرقي لإدلب، إضافة إلى الزربة وخان العسل ما مكّنها من قطع الطريق الدولي حلب – دمشق.

كما تمكّنت من استهداف مواقع لقوات الجيش في قلب مدينة حلب لأول مرة منذ بدء العملية، وسط أنباء تشير إلى وصول طلائع الفصائل إلى مشارف مدينة حلب، بعد إعلان غرفة “العمليات العسكرية” أمس السيطرة على كامل الريف الغربي لمدينة حلب.

وتعليقًا على هذا التقدم السريع، يوضح القيادي السابق في المعارضة العسكرية العقيد عبد الجبار العكيدي، في حديثه للجزيرة نت، أن أسباب ذلك تكمن في التخطيط العسكري، والإدارة الموحدة للعمليات، إضافة إلى وجود أسلحة محلية، والانهيار السريع لقوات النظام والمليشيات التابعة له في ظل عدم وجود مشاركة فعلية للطيران الروسي حتى الآن.

وكانت المعارضة السورية أعلنت أمس الخميس لأول مرة استخدام طائرات مسيّرة باسم “شاهين”، قصفت من خلالها طائرات مروحية في مطار النيرب العسكري.

أما أهم عامل برأي العكيدي فهو “توحد الفصائل بغرفة عمليات واحدة هي إدارة العمليات العسكرية، ونبذ الخلافات بين الفصائل، التي تقاتل الآن كتفا إلى كتف، رغم أنها منذ أيام كانت تتقاتل مع بعضها”.

تعليق الحكومة على الهجوم

وفي أول تعليق للحكومة السورية على الهجوم، أعلنت وزارة الدفاع أن فصائل المعارضة شنت هجوما واسعا الأربعاء، على عدد من القرى والبلدات والنقاط العسكرية في ريفي حلب وإدلب، مشيرة إلى أنها “تصدت له” ومؤكدة أن الهجوم لا يزال مستمرا.

وجاء في بيان للوزارة صباح الخميس أن -ما سمتها- التنظيمات الإرهابية المسلحة المنضوية تحت جبهة النصرة والموجودة في ريفي حلب وإدلب قامت “بشن هجوم كبير وعلى جبهة واسعة صباح يوم الأربعاء بأعداد كبيرة من الإرهابيين وباستخدام الأسلحة المتوسطة والثقيلة مستهدفة القرى والبلدات الآمنة ونقاطنا العسكرية في تلك المناطق”.

وقال البيان إنه تم التصدي للهجوم “الذي ما زال مستمرا حتى الآن، وكبدت التنظيمات الإرهابية المهاجمة خسائر فادحة في العتاد والأرواح، وتقوم قواتنا بمواجهة التنظيمات الإرهابية بمختلف الوسائط النارية وبالتعاون مع القوات الصديقة”.

توقيت الهجوم

منذ بداية التصعيد الإقليمي في المنطقة بعد عملية طوفان الأقصى، تحاول المعارضة السورية استغلال الهوامش الممكنة لتغيير الواقع الجيوسياسي من جهة، ولتأمين المناطق التي تسيطر عليها من اعتداءات الجيش وحلفائه التي تزايدت في الفترة الأخيرة من جهة ثانية.

وبحسب الخبير العسكري أحمد حمادة، فإن المعارضة تحاول في هذا التوقيت استغلال ما يسمى سياسة “تحجيم النفوذ الإيراني” في سوريا، ويترافق ذلك مع مخاوف المعارضة من تحركات المليشيات التابعة لإيران وحزب الله في سوريا، وسعيها لإعادة نقاط انتشارها وتمركزها في مناطق بعيدة عن الحدود الإسرائيلية مثل أرياف حلب وإدلب ودير الزور.

ويتابع حمادة أن كل ذلك يأتي وسط شرخ قوي بين الحكومة السورية وحزب الله، بعد أن يئس الأخير من مساعدتها له في التصعيد الإسرائيلي الأخير ضده.

وعلى المستوى الدولي يأتي هذا الهجوم وسط استنزاف روسيا، أكبر داعمي الأسد بالملف الأوكراني، وتعقيبا على هذه النقطة أشار الخبير العسكري العراقي مهند العزاوي للجزيرة نت إلى التقارير التي تحدثت عن وجود دعم غربي عسكري للمعارضة السورية لأول مرة، وذلك بغرض فتح جبهة جديدة ضد روسيا التي لم تعد سوريا أولوية عندها بسبب انشغالها بالحرب في أوكرانيا.

ماذا عن الموقف التركي؟

على الرغم من أن تركيا تعد الضامنة لمناطق خفض التصعيد من ناحية المعارضة، فلم يصدر عنها موقف رسمي حتى الآن من العمليات التي تخوضها المعارضة السورية في الشمال السوري، غير أن وكالة رويترز نقلت عن مصادر أمنية تركية (لم تسمها) أن عملية المعارضة السورية باتجاه حلب تقع ضمن حدود منطقة خفض التصعيد بإدلب التي اتفقت عليها روسيا وإيران وتركيا في 2019.

وأضافت المصادر أن العملية المحدودة لجماعات المعارضة توسعت بعد أن غادرت قوات الجيش السوري مواقعها، موضحة أن العملية جاءت عقب هجمات للجيش على المنطقة.

وبناء هذه التصريحات التركية يرجح الباحث بمركز الحوار السوري أحمد قربي “أن تكون العملية قائمة بموافقة ضمنية من تركيا على الأقل في الوقت الحالي، لأن تركيا تريد استغلال الظرف الحالي وتراجع النفوذ الإيراني، في ظل التداخل الدولي من مختلف الأطراف الفاعلة بالشأن السوري من أجل تقوية أوراقها في سوريا، والضغط على النظام السوري في ملف تطبيع العلاقات بين البلدين”.

ويعتقد القربي، في حديثه للجزيرة نت، أن العملية قائمة على سيناريوهين، الأول ناتج عن توافقات ضمنية بين تركيا وروسيا، خاصة أن الطيران الروسي لم يتدخل بفعالية عقب تقدم فصائل المعارضة السورية، والثاني أن روسيا تراقب ما يحصل على الأرض ثم بعد ذلك قد تقوم بالتدخل لصالح النظام، سواء في حال كان التقدم الحالي خارج الرغبة الروسية، أو أنه يتجاوز الحدود المتوافق عليها بين كل من أنقرة وموسكو.

وكان مسار التطبيع التركي مع الرئيس السوري بشار الأسد قد وصل إلى طريق مسدود نتيجة إصرار الأخير على خروج الجيش التركي من الأراضي السورية بصفته “محتلا”، بينما تصرّ تركيا على البقاء حتى تشكيل دستور جديد للبلاد وتطبيق الحل السياسي وفقًا للقرار الأممي 2254.

عمليات المعارضة ضد النظام في ادلب(هيئة تحرير الشام تنشر "هذا اليوم المقترب") التي اطلقت اليوم- الصورة من امجاد على تويتر

أين حلفاء النظام؟

مقابل الموقف الإيراني الواضح من عملية “ردع العدوان” والذي تجلى من خلال المشاركة الفعلية في المعارك، التي أدت إلى مقتل العميد كيومرث بورهاشمي، أحد كبار المستشارين العسكريين الإيرانيين في هجوم شنه مسلحون شمال حلب بحسب ما أفادت به وكالة “تسنيم” الإيرانية أمس الخميس.

وترافق ذلك مع موقف سياسي لإيران أكثر وضوحا عندما أدان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، إسماعيل بقائي أمس الخميس تصاعد أنشطة فصائل المعارضة في سوريا خلال اليومين الماضيين، معتبرا ذلك جزءا من “خطة أميركية وإسرائيلية لزعزعة أمن المنطقة”.

وأكد بقائي أن تحركات الفصائل “تمثل انتهاكا صارخا لاتفاقات أستانا” التي تشمل مناطق خفض التصعيد في أطراف حلب وإدلب، مما يعرض “الإنجازات الإيجابية لهذه العملية (أستانا) إلى خطر جدي”.

مقابل هذا الموقف الإيراني بدا الموقف الروسي غامضا على الصعيد العسكري من خلال المشاركة المحدودة لسلاح الجو الذي اشتهر باتباع سياسة “الأرض المحروقة” منذ تدخله في سوريا عام 2015، مما أثار كثيرا من التساؤلات حول وجود تنسيق أو اتفاق “تركي – روسي” خاصة أن هذه العمليات تدور في مناطق “خفض التصعيد” المتفق عليها بين الطرفين.

أما الموقف الرسمي الروسي فقد تأخر حتى اليوم الثالث من بدء المعارك، وجاء على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا التي قالت إن قوى الغرب الكبرى مستمرة في ممارساتها وهجماتها العدائية ضد دمشق، مؤكدة استمرار دعم روسيا لسوريا وشعبها.

وأشارت إلى أن “سياسة قوى الغرب، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا في نشر الفوضى عبر جماعات مسلحة وإرهابية، باتت مفضوحة”.

من ناحيته، كشف الخبير العسكري والإستراتيجي العميد أحمد رحال، للجزيرة نت، أن سبب الإحجام الروسي عن المشاركة الفعلية بالمعارك يعود لسببين: الأول أن روسيا تريد أن تضغط على النظام بملف التطبيع مع تركيا، وتريده أن يعرف حجمه وإمكانياته العسكرية المتواضعة هو وإيران.

ويضيف رحال أن السبب الثاني يعود إلى مخاوف القوات الروسية من عمليات مفاجئة قد تتعرض لها قواتها في قاعدة حميميم من قِبَل قوات المعارضة.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.