لم ينتظر الشاعر المالي عبدالمنعم حسن محمد، من يأخذ بيده، وهو يعلم أن الطريق طويل، لكنه ملأ قلبه بالأمل، وبدأ خطواته الأولى مكتمل المشاعر نحو القصيدة، والوعي بالفراغات التي عليها أن يكملها دون أن تُنقصه، وما بين أول بيتٍ وُضع للناس، وبين تمبكتو، نسجت الذاكرة بيته، بخيوط نورانية، وزيّنته بالصور التي لم تبرح تتجدد في ركن من القلب، وبين ما كان، وما هو كائن؛ نفتح باب مثاقفة، مع شاعر زاخرة روحه بكل ما هو إنساني، فإلى نص الحوار:

• متى قدمت أسرتك لمكة؟

•• هاجر والدي من (تمبكتو) إلى جهة القبلة، في شبابه الباكر وسيراً على الأقدام، أمضى سنوات في طريق رحلته، قبل أن يُلقي رحله في ميناء جدة، ثم الاستقرار في مكة المكرمة، بنيّة مجاورة الحرم، كان ذلك في عهد الملك سعود، رحمه الله، أما والدتي فصحبها جدي إلى مكة وهي طفلة.

• أين وُلدت؟

•• ولدت في مكة المكرمة، في حي جرول.

• ما الذي تختزنه الذاكرة من حارات مكة ورفاق الطفولة والصبا؟

•• كما تتدفق بئر زمزم بحكاية الماء الخالدة، تنهمر التفاصيل، عصية عن الجفاف والنسيان. الحارة في مكة مفعمة بالحيوية والأحداث، واللغط والأهازيج والمناسبات، يتشابك فيها النسيج الاجتماعي، ولا يمر يوم دون وقوع حادثة سعيدة أو عكسها. الألقاب التي تُمنح لكل فرد لها وقع الأسطورة في الذاكرة، لذا تختزن «نداءات الأزقة الدافئة».. سجلات ضخمة تقبع في رفوف ذاكرتي، أركن إليها وألتمس فيها صفو الخاطر. كل خلية في وجداني نبتت من أنفاس كائنات مكة. فيض الروائح، أشجار النيم، لحظات اصطياد النبق، شلة الأنس، الغزل الصامت والخجول، نظرات اليابات المقلقة (المزمرجيّة)، مواسم الحج، حمَام رب البيت وهو يلتقط الحَب في صباحات الحرم، كما يلتقط الرفاق بذور الوفاء من أنحاء قلبي، وصوت فوزي محسون يناشد مع طلال «أهل الحرم بالله ردو علي روحي». كبرتُ في جبل غراب، تدحرجَت خطوات صباي في سفح جبل هندي، خبأت أسرار المراهقة في جبل عمر، وفي كل منحدر ومنحنى لي نديم.. ألا يا دوم دام لك النعيم.

• ما هي ينابيع البئر الأولى؟

•• لا أجد غضاضة في أن أقول: التلفزيون؛ الذي كانت برامج القناة السعودية الأولى تمسك الطفل من تلابيبه، المناهل، لغتنا الجميلة، مسلسل عازف الليل… إلخ، أيضا -من حُسن طالعي- أسرتي كانت تهتم بالكتب والفنون. كراسات الرسم والألوان الزيتية تتناثر في غرفة المعيشة، وهناك كتب وقصص وأشرطة أغان تدخل إلى البيت باستمرار.. تعليم والدي إياي حروف الهجاء، وإلحاقي بتحفيظ القرآن، ثم الدراسة لاحقاً في المدرسة الصولتية، أقدم مدرسة في مكة، وقصتها مشهورة.

• كيف يمكن أن يحفظ ويحتفظ الطفل بلغته الأم في ظل تعدد اللغات واللهجات؟

•• اللغة كنز ثمين، وكلما أضفت لغة إلى صندوق وعيك اتسع مجال الإدراك لديك، يحدثني صديق عربي يعيش في فرنسا وزوجته برتغالية، أنهما اتفقا على ألا يتكلم كل منهما مع ابنهما إلا بلغته الأم، فكبر الطفل وهو يتقن ثلاث لغات بالتلقي.

• ما الذي قدح زناد القصيدة في روحك؟

•• الغيرة.. زميلي في الصف الأول المتوسط كتب شعراً، ونال عليه ثناءً وتشجيعاً، فقلت حينها: لم لا أفعل أنا أيضاً؟! وكانت تلك الواقعة الشرارة الأولى، التي تهيأت لها بيئة مدرسية تتميز بنشاط جاد، وأساتذة يقدّرون المواهب ويوبخون على إهمالها، بقدر ما يكافئون على العناية بها.

• من غذّى هذه المَلَكة فيك، وبماذا غذّاها؟

•• أخي الأكبر، كان يسخر من كل جملة أكتبها، إذا لم يتوفر بها شرط من شروط الشعر، وحين كتبت الأبيات الموزونة الأولى، قال لي: بدأت تمسك الدرب.

• هل للإرث الثقافي والحضاري لباماكو أثر في تشكيل وجدانك وذائقتك الشعرية؟

•• باماكو، عاصمة مالي، مدينة تقع على ضفتي نهر عظيم، ذي تاريخ عريق، اسم المدينة بإحدى اللغات المحلية يعني (ظهر التمساح) إشارة إلى رمزية ثقافية شديدة العمق والدلالة، وإذا تجولت في شوارع المدينة تصافحك تماثيل مختلفة ورائعة، لشخصيات ثقافية وفكرية مثل المناضل الأفريقي (كوامي نكروما)، و(نصب فلسطين)، وجدارية (محمد الدرة)، وربما ترى تمثال كرة قدم ضخمة تحفها رموز دول أمم أفريقيا، أو منحوتة فيل، أو فرس نهر، أو شعلة للسلام، أو جنود، أو امرأة تندب أطفالها.. كل منحوتة تنطوي على قصة. إضافة إلى المتاحف ودور مخطوطات وآثار، وقصر الثقافة الذي يضم قاعة ممهورة باسم (أديبمالي الكبير أمادو أمباتي با) الذي قال: «موت مسن في أفريقيا بمثابة احتراق مكتبة كاملة». ستنطلق من هناك عبر باعة الكتب المتجولين لتصل إلى سوق الفنانين المقابل لجامع الملك فيصل وسط المدينة، وتقرع مسامعك أنغام عذبة لـ(علي فركا توري)، و(أومو سنغاري)، و(ساليف كيتا) تحمل كلماتها، خلاصة الحكمة والشعر. يجب أن أُرهِف الحس لتمتلئ بِركة وجداني بقصائد جديدة، تفيض بمجرد أن أفتح فمي أو أتناول بيدي القلم.

وأهم إرث حضاري في (باماكو) يتمثل في المثقفين الماليين الذين درسوا العربية وأتقنوها، وأثروا التخصص في الجامعات والمعاهد في مالي، وصنعوا إسهامات عربية لافتة، في سعي ليس بغريب عن التراث الضخم الذي أُنتج منذ قرون، في (تمبكتو) و(غاوو) إبان الإمبراطوريات الإسلامية التي شهدتها المنطقة، وامتد تأثيرها في كل القارة قبل أن يغمس المُستعمِّر أصبعه في الحساء.

• هل تنتظر القصيدة أم تبادر بالذهاب إليها؟

•• كثيرا ما اعترى الشاعر الذهول، وقارب استنكار أن تكون هذه الكلمات بالتحديد صدرت منه هو تحديداً، وينسى اللحظات التي أنفقها في رصف الكلمات وفق هذه المعاني العميقة والصور المبهرة، ويتساءل باستغراب: هل فعلاً أنا من كتب هذا؟! أنا أنتظر القصيدة، أحياناً تأتي في هيئة مكان مناسب لكتابتها، أو دمعة لا أستطيع مغالبتها عند مباغتة حزن، أو على شكل حلم يتكرر. وحده شعر المناسبات ما أسعى وراءه، وأتكلف في التماسه، لذلك يذهب جفاء حيث يذهب الزبَد.

• كم تمنح القصيدة من وقت قبل أن تطرق الأسماع؟

•• دربت نفسي على عدم نشر القصيدة بعد الفراغ منها مباشرة، بل أدعها يوماً وليلة كي لا يبقى في نفسي كثير تردد، مع أنني لا أملك الجلد على المراجعة والتنقيح، أنحاز إلى شبهة الارتجال، فالفن الصادق؛ ما يصل إلى المتلقي ملطخاً بتراب النفس..

• من أوّل من تطلعه على نصك وأنت مطمئن لرأيه؟

•• أحب ذلك الصديق الذي سقطت الكلفة بيننا، فهو لا يفكر مرتين قبل أن يقول لي مثلاً: نصك زي وجهك. فأعرف حينها أنني لم أكتب قصيدة تستحق النشر.

• ماذا تبقى من شقة الحرية التي جمعتك بالشاعر إبراهيم حسن وآخرين؟

•• ربما أهب سنة من عمري مقابل ساعة واحدة من أيام الشقة، في جدة مع برهوم، صديقي الذي أنقذني مراراً من التكرار ورمال التقليد المتحركة، رأيت في صحبته كيف يعيش الشاعر الشعرَ، جدران الشقة، في عمارة قديمة، بشارع فلسطين، عرفنا أن سيد البيد محمد الثبيتي سكن ذات العمارة قبلنا بـ15 عاماً، غاليري يضم لوحات عالمية، لا أدري من أين جاء بها إبراهيم! طاقة الشقة شديدة الكثافة والخفة، الرطوبة وغزوات البق لم تعكر صفو الود والقراءة والصمت والشاي. الكتب غالية يا برهوم، لا عليك، سنجد ما نأكله، ثم ننفق جميع نقودنا على دوستوفيسكي، وتشيخوف، وهنري ميللر، وأمجد ناصر وعدنان الصائغ، وأناييس نن، وتوني موريسون، وريلكه وأعمال كاملة لشعراء يفاجئني برهوم بأسمائهم الغريبة! مئات الكتب والأفلام والمقابسات، من خلالها أزعم أننا تأسسنا جيداً، إبراهيم وأنا، في الشقة العامرة تلك تقاسمنا فيها التشجيع والتحفيز، وكثيراً من القهقهات.. بقي منها مخزون لا بأس به من الصرامة في التعاطي مع الأدب، وأحاديث عريضة ندخرها للقاءاتنا القادمة، عن «الزمن المفقود».

• إلى أين تأخذك القصيدة وإلى أين تأخذها؟

•• إنما أنا فتى يكتشف القصيدة، تأخذني إلى أصدق منطقة في الكائن؛ إلى رحابة الانتماء، لا أعرف ماهية الوجهة، لكن حدسي يحس بضوء ما.. وآخذ القصيدة إلى زمن اللازورد.

• كيف ترى أثر القصيدة في الواقع المعاصر؟ ومستقبلها كيف سيكون؟

•• حيث يوجد الغناء يوجد الشعر، أحب وجهة نظر غازي القصيبي، في كون الشعر غاية لا وسيلة. وإذن، فلا يجب أن ننتظر من القصيدة أن تفعل شيئاً، القصيدة قالب يحدث فيه الأثر، وليست موضوعاً للتأثير.

• لماذا لم تجنح للنثر باعتباره محرابا نسّاك شعر الأحداث؟

•• العادات قاهرات كما يقول (أبو حيان التوحيدي) في الإمتاع والمؤانسة، أحد الكتب المفضلة لدي. كما أن مفضلتي تزخر بقصائد نثر كثيرة. لا أفرق بين أحد من أنواع الشعر، لكنني أكتب الموزون أكثر لأني اعتدت على ذلك.

• أي إضافة تمنحها المسابقات الشعرية للشاعر عدا الماديات؟

•• التقدم خطوات أوسع في ميدان الشهرة، نشوة التفوق على المتنافسين فرصة لمراجعة التجربة.

شخصياً، كدت أمنح روحي للسرد ضربة لازب، لولا أن أعادتني مسابقة شعرية إلى قلعة الشعر.

ما زالت ثمار هذه التجربة ناضجة، أقطفها في عيون محبي الشعر ومتابعيه هنا وهناك، وانعكست على مسيرتي بشكل إيجابي، وأخرجتني من عزلتي إلى ساحة التفاعل.

أضافت لي تصوراً مغايراً عن جمهور الشعر وعلاقاته الوديّة، بكل شاعر لديه طموح شعري، وعززت المسؤولية تجاه تقديم القصيدة باهتمام أكبر، وأخذ الموهبة على محمل الجد. أهدتني المسابقات جمهوراً كبيراً من عشاق الشعر العربي مالي وساحل العاج والنيجر ونيجيريا والسنغال وغانا وكل أنحاء أفريقيا، إضافة إلى العالم العربي والخليج، وأهداني حبهم وفخرهم، وأهلي خصوصاً عرفوا قيمة أن يكتب ابنهم الشعر وشعروا باعتزاز..

• ماذا يعني الوطن للشاعر؟

•• وطن الشاعر حيث لا يضطر إلى استعمال (الجي بي إس) من أجل الوصول إلى بيته أو مقهى يواعد فيه حبيبته.

• ما تعليقك على مقولة: الفيتوري طبع بصمته على شعراء أفريقيا؟

•• أنا أحب شعر الفيتوري، وأتمنى أن ينطلق شعراء أفريقيا بالعربية من نهج إبداعه، وأظنه لا يزال قليل التأثير في شعراء أفريقيا غير العربية، مقارنة بغيره من رواد الشعر الحديث، لأسباب تتعلق بتقصير الإعلام.

• لمن تقرأ اليوم من شعراء المملكة؟

•• أقرأ لجميع شعراء المملكة، باختلاف أجيالهم ومشاربهم، بما في ذلك الشعر الشعبي الحاضر في قائمة قراءاتي..

الشعر السعودي يمتاز بالتنوع والغزارة، فهو يُكتب في الأحساء بسعف نخيل الخلاص، وفي جازان بعيون الفل، ويُنحت على صخور تبوك، ويطوى ويُنشر في الحجاز، ولاتُحدّ مضامينه بحدود الصحراء..

آخر المجموعات الشعرية التي قرأتها كانت لمحمد سيدي، عبدالله بيلا، هدى المبارك، محمد خضر، إياد حكمي، طارق الصميلي، إبراهيم مبارك، محمد إبراهيم يعقوب، عبدالله ناجي، وآخرين رائعين.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version