في مشهدٍ لغويٍّ عربيٍّ يبعث على الأمل، أعلن معجم الدوحة التاريخي للغة العربية عن بلوغه مرحلة الاكتمال، مُحقّقًا بذلك إنجازًا تاريخيًا طال انتظاره. هذا الإعلان ليس مجرد حدث أكاديمي، بل هو نقطة تحول في مسيرة اللغة العربية، وخطوة نحو استعادة مكانتها اللغوية والثقافية، ووضع حد لعقود من المحاولات المتعثرة في توثيق تاريخها اللغوي. معجم الدوحة التاريخي يمثل صرحًا علميًا شاملاً، يوثق تطور الألفاظ العربية عبر أكثر من 20 قرنًا، ويقدمها للباحثين والجمهور على أسس منهجية حديثة.

ما معنى “اكتمال” معجم الدوحة التاريخي؟

إن مصطلح “اكتمال” في سياق معجم الدوحة التاريخي لا يعني التوقف عن العمل أو إغلاق الباب أمام المزيد من البحث والتوثيق. بل يشير إلى إنجاز البنية التأسيسية الكبرى للمشروع، وتحرير جميع مواد الحروف واعتمادها ونشرها وفق منهج تاريخي موحد. هذا المنهج يهدف إلى تتبع تطور الألفاظ العربية دلاليًا وصرفيًا، بدءًا من أقدم شاهد موثق وصولًا إلى أحدث الاستعمالات، بالاعتماد على مدونة لغوية تاريخية محوسبة واسعة. الدكتور عز الدين البوشيخي، المدير التنفيذي للمعجم، يؤكد أن هذا الإنجاز هو بداية مرحلة جديدة من التحيين المستمر ورصد الاستعمالات الحديثة، مما يجعل المعجم مشروعًا حيويًا ومتجددًا.

حلمٌ تحول إلى واقع: تجاوز عقبات الماضي

لطالما كان بناء معجم تاريخي للغة العربية بمثابة “حلم مستحيل” في الثقافة العربية. فقد تعثرت المحاولات السابقة منذ عام 1932 بسبب عدة عوامل، أبرزها غياب مدونة لغوية شاملة، وتشتت الجهود، والاقتصار على مبادرات فردية أو جزئية، بالإضافة إلى انعدام الاستمرارية المؤسسية. إلا أن مشروع الدوحة نجح في تجاوز هذه العقبات من خلال تبني نهج مؤسسي جماعي، وتوظيف أحدث التقنيات الرقمية، وبناء بنية علمية وتنظيمية تضمن استمرارية العمل.

المدونة اللغوية المحوسبة: أساس الإنجاز

أحد أهم عوامل نجاح مشروع الدوحة هو بناء مدونة لغوية تاريخية محوسبة ضخمة، تضم ما يقارب مليار كلمة. هذه المدونة تمثل قاعدة بيانات لغوية شاملة تغطي العصور المختلفة، وتتيح للباحثين تتبع تطور الألفاظ عبر الزمن بدقة وكفاءة. كما ساهم تطوير أدوات الصناعة المعجمية وتقنياتها الحديثة في تسريع وتيرة الإنجاز وضمان الدقة.

“ذاكرة الأمة الفكرية”: دور المعجم في حفظ التراث

معجم الدوحة التاريخي لا يقتصر على تعريف الألفاظ، بل يتجاوز ذلك إلى المساهمة في بناء “ذاكرة الأمة الفكرية” من خلال اللغة. فكل مادة معجمية تمثل سجلًا دقيقًا لمسار مفهوم ما، وتوضح كيف نشأ، وكيف استعمل، وكيف تحول دلاليًا عبر الزمن، وفي أي سياقات معرفية واجتماعية وثقافية استُخدم. بهذه الطريقة، يسهم المعجم في فهم أعمق للتراث العربي، وتاريخ الفكر العربي، وتطور الحضارة العربية. كما أن ربط كل لفظ بسياقه التاريخي يتيح فهمًا أدق للنصوص الدينية والأدبية والعلمية، وتجنب الإسقاطات الدلالية الخاطئة.

البوابة الرقمية: نافذة على المعجم في العصر الرقمي

تمثل البوابة الإلكترونية لمعجم الدوحة واجهة رقمية علمية متقدمة، تجمع بين الدقة المنهجية وسهولة الاستخدام. توفر البوابة مجموعة واسعة من الخدمات الرقمية للباحثين والجمهور العام، بما في ذلك:

  • البحث في المداخل المعجمية والجذور.
  • التحكم في النطاق الزمني للبحث (هجري/ميلادي).
  • البحث في المدونة اللغوية.
  • الاطلاع على إحصاءات دقيقة لتطور استعمال الألفاظ.
  • خدمات تفاعلية مثل “كلمة اليوم” و”شارك في المعجم”.
  • إتاحة الوصول إلى منشورات المعجم وأخباره وفعالياته.

هذه الخدمات الرقمية ستعزز بشكل كبير حضور اللغة العربية في “الفضاء الرقمي”، وتجعل المعجم في متناول الجميع.

الذكاء الاصطناعي وتطوير المعجم: نظرة مستقبلية

بالتزامن مع إطلاق المعجم، يعقد مؤتمر حول “الذكاء الاصطناعي وخصائص اللغة العربية”، مما يعكس وعيًا بأهمية دمج التقنيات الحديثة في تطوير الصناعة المعجمية. يخطط القائمون على المعجم لدمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجالات متعددة، مثل اقتراح الشواهد الجديدة، وتحليل التحولات الدلالية آليًا، وتطوير البحث الدلالي العميق، وتحسين واجهات التفاعل مع المستخدمين. هذا الدمج سيجعل معجم الدوحة التاريخي أداة أكثر قوة وفعالية في خدمة اللغة العربية والباحثين فيها. كما يمكن أن يتحول المعجم إلى “قاعدة بيانات مغذية” لنماذج الذكاء الاصطناعي العربية، مما يقلل من الفجوة الرقمية مع اللغات الأخرى.

آفاق جديدة: معاجم فرعية وتخصصية

لا يتوقف طموح مشروع الدوحة عند إعلان الاكتمال، بل يمتد إلى إصدار معاجم فرعية وتخصصية مستمدة من مدونة المعجم التاريخي. تشمل هذه المعاجم معاجم طبية وفلسفية وعلمية، وغيرها من المجالات المتخصصة. هذه المعاجم ستستند إلى المادة المؤرخة والمنهج التاريخي نفسه، مما يضمن دقتها واتساقها مع المعجم التاريخي العام.

في الختام، يمثل معجم الدوحة التاريخي إنجازًا علميًا وثقافيًا عظيمًا، يستحق التقدير والاحتفاء. إنه صرح لغوي شاملاً، يوثق تاريخ اللغة العربية، ويساهم في بناء ذاكرة الأمة الفكرية، ويعزز حضورها في العصر الرقمي. رسالة المعجم إلى الأجيال الجديدة واضحة: العربية لغة قابلة للبحث العلمي والتطوير، والاشتغال المنهجي بتاريخها هو شرط أساس لاستئناف دورها في إنتاج المعرفة. ندعو جميع الباحثين والمهتمين باللغة العربية إلى استكشاف هذا الصرح العلمي والاستفادة من خدماته الغنية.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version