يتجاوز فيلم “بعد 28 عامًا” (28Years Later) التكرار النمطي المعتاد في أفلام الزومبي، ليقدّم قصة نضج غنية بالتأملات الوجودية والعاطفية، مدعومة برؤية بصرية مذهلة. في عالم ما بعد الكارثة، لا يسيطر الفيروس وحده على المشهد، بل تحضر الأساطير والانهيارات النفسية كمحركات أساسية للسرد، ما يجعل من الفيلم تجربة سينمائية نابضة بالحيوية ومفعمة بالحزن.

في زمن طغت فيه الأفلام المعادة والنسخ الحية من الرسوم المتحركة الكلاسيكية، باتت مفاجآت السينما نادرة، وصار كثير من الأعمال أقرب إلى “الوجبات السريعة” التي لا تشبع. ورغم أن هذا الفيلم يكمل سلسلة بدأت عام 2002 بـ”بعد 28 يوما”، ثم “بعد 28 أسبوعا” في 2007، فقد نجح المخرج داني بويل في إعادة إحياء السلسلة بروح جديدة، فقدم عملاً جريئًا وغريبًا، لا يخلو من صدمة مدروسة توقظ الحواس وتخاطب العمق.

يذكر أن بويل عاد بهذا الجزء للتعاون مع الكاتب أليكس غارلاند والمصور أنتوني دود مانتل الذين شاركهما صناعة الجزء الأول، كذلك يعود كيليان مورفي بطل الجزء نفسه كمنتج تنفيذي هذه المرة.

ومع أن فكرة تقديم جزء ثالث ظلت مطروحة قرابت عقدين لكن المنتج أندرو ماكدونالد لم يستعد حقوق الفيلم الأصلى سوى العام الماضي، وسرعان ما أبرم اتفاقا مع سوني بيكتشرز لتقديم الجزء الحالي على أن يكون بداية ثلاثية جديدة سيصدر الجزء الثاني منها عام 2026 بعنوان “بعد 28 عاما: معبد العظام”.

المقطع الدعائي الأكثر رواجا

ما أن طرح المقطع الدعائي للفيلم حتى صار الأكثر رواجا على منصة يوتيوب حاصدا أكثر من 10 ملايين مشاهدة خلال أول 48 ساعة من إصداره مما جعله أكثر أفلام الرعب انتظارا بالنصف الأول من العام وهو ما دفع شركة سوني لإعادة طرح الجزء الأول من السلسلة عبر المنصات الرقمية.

قبل أن يصدر الجزء الجديد أواخر يونيو/حزيران الماضي ويحقق نجاحا نقديا وجماهيريا ويجني أرباحا بلغت 129 مليون دولار مقابل ميزانية إنتاج 60 مليون، وقد حظى العمل بأعلى افتتاحية في تاريخ السلسلة بلغت 30 مليون دولار ليحل في المركز الثاني خلف النسخة الحية من فيلم “كيف تروض تنينك”.

حين يصبح البقاء طقسا والنوستالجيا سلاحا

بدلاً من العودة إلى لندن كما حدث في الجزأين السابقين، اختار صُنّاع فيلم “بعد 28 عامًا” أن تدور أحداثه في جزيرة هولي آيلاند الواقعة في نورثمبرلاند، حيث أسّس مجتمع منعزل نمط حياة جديد، بعد 28 عامًا من تفشي الموجة الثانية للفيروس القاتل الذي يحوّل المصاب إلى زومبي (آكل لحوم) خلال لحظات.

ورغم أن أوروبا تخلّصت من الفيروس، فإن الجزر البريطانية لا تزال تحت حجر صحي دائم، يعيش فيه عدد من الناجين خلف أسوار وبوابات ضخمة تفصلهم عن جموع المصابين، بينما يستمر باقي العالم في ممارسة حياته بشكل طبيعي.

بيد أن طقس البلوغ في الجزيرة والمتمثل في الخروج وقتل المصابين في الجوار يضطر جيمي/الأب/ آرون تايلور-جونسون اقتياد ابنه سبايك/ ألفي ويليامز ذي الثانية عشر خارج الجزيرة والبحث عن صيد ثمين.

وهي المغامرة التي يكاد الثنائي يلقى حتفه فيها، لكنهما يعودان سالمين بمعجزة فيما يكتشف سبايك وجود طبيب يعيش وحيدا خارج حدود الجزيرة ولكن على مقربة منهم فيقرر آخذ والدته المصابة بمرض عضال مجهول على أمل الشفاء.

وفي سبيل ذلك يخوضان رحلة مفخخة بالمخاطر يلتقون خلالها بغرباء بعضهم يسهل عليهم العبور وبعضهم يجعله أصعب إلى أن يلتقوا الطبيب غريب الأطوار، الذي يكرم ذكرى الموتى بأبراج من العظام خلافا لقرية البطل التي تقدس الوحشية والعنف.

وصولا للنهاية التي يقدم العمل خلالها لفتة إنسانية وبدلا من ترسيخ مبدأ الهرب والنجاة الفردية يدعو المخرج المشاهدين للتوقف والاحتفاء بالحزن والرثاء والأهم تذكر قيمة الحياة وإنسانية الموت.

بين الواقع والأسطورة

يتميز الفيلم برؤية إخراجية تجمع بين الواقعية والأسطورة، حيث يتعامل بويل مع رعب ما بعد الكارثة كمرآة للعزلة والخوف الجمعي ويستخدم هاتف آيفون 15 برو ماكس في تصوير أغلب المشاهد، ما أضفى واقعية حميمية ونوعا من الحداثة، جدير بالذكر أن الجمهور طالما انقسم حول أفلام بويل بسبب أسلوبه التحريري العنيف.

أما التصوير السينمائي فحافظ على بعد بصري متقن والإحساس بالحيوية، مع لقطات جوية تعكس البؤس والجمال في آن معا حيث تحولت المناظر الطبيعية الخضراء المورقة إلى لوحات خيالية في تناقض تام للسواد الكئيب الذي طغى على فيلم “بعد 28 يوما” والعنف الصاخب الذي اكتسى به فيلم “بعد 28 أسبوعا”.

وقد تألق أداء بعض الممثلين على رأسهم ألفي ويليامز بدور سبايك، الذي قدم أداء ناضجا ومؤثرا لا يسعى خلاله لأن يكون لطيفا وإنما واقعيا، فيما تنجح جودي كومر في تجسيد شخصية الأم المريضة المتأرجحة بين الهلوسة والوعي، أما رالف فاينس فيقدم دورا فلسفيا غامضا بصفته الطبيب كيلسون، بمزيج من الحكمة والجنون مانحا دوره طابعا من العمق والذكاء.

في حين ساهمت الموسيقى التصويرية في إضفاء لمسة روحانية داكنة تعمق من جو الكآبة والسحر، ولعبت المؤثرات الصوتية دورا محوريا في ترسيخ الإحساس بالخطر والهدوء القاتل. كذلك نسج سيناريو غارلاند خيطا من التأمل الصامت الحزين أرانا كيف تتحول الذكريات إلى ديانة، وكيف تتجمد الصدمات النفسية في شكل ثقافة.

ورغم أن الفيلم مليء بالأفكار الجريئة والمشاهد اللافتة والطموح الحقيقي فإنه لم يخل من العيوب الفنية، إذ يتفاوت الإيقاع، خاصة في منتصفه حيث يتأرجح بين دراما العلاقات ومهرجانات الزومبي، كذلك بدت بعض المشاهد الرمزية مفصولة عن السياق العام وغير موظفة بفعالية كافية، وجاءت النهاية مبتورة على عجل لا لشيء سوى لخدمة الجزء المقبل من الثلاثية.

ليس مجرد جزء تكميلي

فيلم “بعد 28 عامًا” لا يُقدَّم كامتداد تقليدي لسلسلة رعب معروفة، ولا يكتفي بدور الظل لأجزائه السابقة، بل يشكل إعادة ابتكار كاملة، وتجربة سينمائية تتأمل في الإنسان والذاكرة والهوية. إنه عمل يتجاوز تصنيفه الفني، ويتناول فكرة النضج وسط الخراب، وفقدان الذات في عالم متشظٍّ.

ورغم أن بعض المشاهدين قد يرونه متواضعًا على مستوى السرد، إلا أنه يظل تجربة طموحة تنبض بالحياة وسط مشاهد الموت، وتُمهّد بذكاء لما هو قادم في السلسلة.

يضم الفيلم نخبة من النجوم، من بينهم: ألفي ويليامز، جودي كومر، آرون تايلور-جونسون، رالف فاينس، إدفين رايدينغ، وجاك أوكونيل، وهو من إخراج داني بويل، وسيناريو أليكس غارلاند.

شاركها.
اترك تعليقاً