في قلب العاصمة اللبنانية، يفتح معرض “بيروت المرفأ” نافذة على تاريخ عريق يربط المدينة بمرفئها، مسلطاً الضوء على تطورهما المتشابك عبر حقب زمنية مختلفة. يهدف المعرض، الذي انطلق في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، إلى تذكير الجمهور بأهمية مرفأ بيروت ليس فقط كبنية تحتية حيوية، بل كجزء لا يتجزأ من الهوية اللبنانية، وتقديم رؤية مستقبلية لإعادة إعماره. يستمر المعرض حتى فبراير/شباط المقبل في “بيت بيروت” أو “مبنى بركات”، أحد أقدم معالم بيروت الحديثة.

تاريخ بيروت والمرفأ: رحلة عبر الزمن

يحاول القائمون على المعرض، وهم نخبة من المهندسين المعماريين والباحثين والأكاديميين، استعراض تاريخ مرفأ بيروت منذ عام 1830، مع التركيز على تأثير الأحداث السياسية والاقتصادية المختلفة على تطوره. لا يقتصر المعرض على سرد الأحداث، بل يسعى إلى إبراز العلاقة الوثيقة بين ازدهار المدينة وفعالية مرفئها.

الازدهار العثماني: نقطة تحول

تعتبر الفترة العثمانية (1299-1923) نقطة تحول رئيسية في تاريخ مرفأ بيروت. توضح المهندسة المعمارية هالة يونس، إحدى منسقات المعرض، أن قراراً اتخذه الحاكم إبراهيم باشا عام 1832 بإنشاء مركز حجر صحي بجوار المرفأ، حول بيروت من قرية إلى مدينة مزدهرة. هذا القرار جعل بيروت محطة إلزامية للتجارة بين أوروبا والشرق، مما عزز مكانتها كمركز حيوي للتواصل الثقافي والاقتصادي.

الانتداب الفرنسي والاستقلال: تعزيز الدور الإقليمي

خلال فترة الانتداب الفرنسي (1920-1943) وبعد الاستقلال، استمر مرفأ بيروت في النمو والتطور، ليصبح البوابة الرئيسية للبنان إلى العالم. شهد المرفأ تحسينات كبيرة في البنية التحتية والقدرة الاستيعابية، مما ساهم في تعزيز الدور الإقليمي لبيروت كمركز تجاري ومالي.

كارثة 2020: جرح عميق في ذاكرة المدينة

لا يمكن الحديث عن مرفأ بيروت دون الإشارة إلى الانفجار المأساوي الذي وقع في أغسطس/آب 2020. يُصنف هذا الانفجار كونه رابع أقوى انفجار غير نووي في العالم، وقد تسبب في دمار هائل للمرفأ وأجزاء واسعة من بيروت، وأسفر عن أكثر من 220 قتيلاً وآلاف الجرحى. بعد مرور خمس سنوات على الكارثة، لا تزال آثار الدمار واضحة، والتحقيقات القضائية مستمرة لكشف ملابسات الحادث.

إعادة إعمار المرفأ: مشروع متكامل

يشدد القائمون على المعرض على أن إعادة إعمار مرفأ بيروت ليست مجرد عملية بناء، بل هي مشروع سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي متكامل. تتراوح التكلفة التقديرية لإعادة الإعمار والتطوير بين 50 و100 مليون دولار، وتتطلب رؤية شاملة تأخذ في الاعتبار تاريخ المدينة وثقافتها.

ربط الماضي بالمستقبل

يهدف المعرض إلى إلهام عملية إعادة الإعمار من خلال استعراض تاريخ المرفأ ودوره في تشكيل هوية بيروت. من خلال الخرائط الزمنية وشريط الفيديو ثلاثي الأبعاد الذي يوضح حجم الأضرار، يسعى المعرض إلى إيقاظ الذاكرة الجماعية وتقديم رؤية واضحة للمستقبل. كما يركز المعرض على أهمية الحفاظ على المباني والمنشآت العثمانية التي لا تزال قائمة في بيروت، مثل السراي الحكومي الكبير، وبرج الساعة الحميدية، وقصر سرسق، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من التراث المعماري للمدينة.

دور المجتمع في إعادة البناء

تؤكد منى حلاق، المهندسة المعمارية ومنسقة المعرض، على أهمية مشاركة المجتمع في عملية إعادة بناء مرفأ بيروت. “هدف المعرض أن يعرّف الناس بتاريخ هذه المدينة وحاضرها، وأن يشعروا بأن لهم دوراً في مستقبلها”، تقول حلاق. إن إشراك السكان المحليين في عملية صنع القرار وضمان استفادتهم من عملية إعادة الإعمار أمر ضروري لتحقيق النجاح المستدام.

بيروت ومرفأها: علاقة تاريخية مستمرة

يُظهر المعرض أن العلاقة بين بيروت ومرفئها ليست مجرد علاقة جغرافية، بل هي علاقة تاريخية وثقافية واقتصادية عميقة. فقد كانت بيروت دائماً مدينة تعتمد على مرفئها كبوابة للعالم، ومحركاً للنمو والازدهار. إن فهم هذه العلاقة أمر ضروري لوضع رؤية مستقبلية لإعادة إعمار المرفأ وتطويره بما يخدم مصالح المدينة وسكانها. كما يبرز المعرض أهمية البنية التحتية للموانئ في التنمية الاقتصادية، وضرورة الاستثمار في تطويرها لضمان استمرار دورها الحيوي في دعم الاقتصاد اللبناني. بالإضافة إلى ذلك، يسلط الضوء على أهمية الحفاظ على التراث الثقافي والتاريخي للمدينة، ودمجه في عملية إعادة الإعمار والتطوير.

في الختام، يقدم معرض “بيروت المرفأ” فرصة فريدة للتأمل في تاريخ المدينة ومرفئها، وتقدير أهمية هذه العلاقة في تشكيل الهوية اللبنانية. من خلال استعراض الأحداث التاريخية، وإبراز حجم الدمار الذي خلفه الانفجار، وتقديم رؤية مستقبلية لإعادة الإعمار، يسعى المعرض إلى إلهام الأمل والتفاؤل، وتشجيع الجميع على العمل معاً من أجل بناء مستقبل أفضل لبيروت ومرفئها. ندعو الجميع لزيارة المعرض في “بيت بيروت” حتى فبراير/شباط المقبل للاطلاع على هذا التاريخ العريق والمساهمة في رسم ملامح مستقبل بيروت.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version