تداول نقاد وكُتّاب خلال عقود، مقولة «الرواية بنت المدينة» وغدت مُسلّمة، إذ خرج سرديون من قراهم ليكتبوا رواياتهم في المدن، أو يكتبوا المُدن في رواياتهم، فيما رحل بعضهم بالبطل إلى خارج الوطن لتكتمل فنيّة العمل دون محاذير ولا تناقض، واليوم يحضر روائيون يكتبون قُراهم باحترافية، لفتت الأنظار إلى إبداعاتهم، ما عزز حضور سرديّة الريف، فقاسمت «بنت المدينة» أو سحبتها إلى جهتها. وهنا استطلاع وجهات نظر، معنيين بالسرديّة المدينية والريفية، إذ يؤكد الببلوغرافي خالد اليوسف، أن منطلق عبارة «الرواية بنت المدينة» عالم المدينة الواسع، والمتعدد، والمتنوع، والأحداث التي تتجدد في مناحي المدينة كل دقيقة وليس كل ساعة، لافتاً إلى أن القائل تناسى أن القرية رافد كذلك من روافد المدينة، وأن القرية هي منبع الأصول والجذور والحنين إلى الأصالة والقيم والأخلاق التي سحقتها المدينة، إضافة إلى أن القرية مثيرة للكاتب الروائي لأسباب عدة؛ منها الجانب الرومانسي والعاطفي والهدوء والسكينة والتماسك الاجتماعي والأسري والحفاظ على العادات والتقاليد، التي غالباً ما تفتقدها المدينة، ما يغري بعض كتاب الرواية إما للمقارنة أو التشبيه والتمثيل، موضحاً أن روايته ما قبل الأخيرة (ارتحالات يعقوب النجدي) تدور أحداثها في الخمسينات في بلدة زليفات، والأبطال دوما يشعرون بالحنين إلى جمالها وطبيعتها الخلابة على الرغم من طردها لهم!

فيما عدّ أستاذ الأدب والنقد في جامعة الملك خالد الدكتور عبدالحميد الحسامي السؤال مشروعاً، خصوصاً أن المشهد الروائي المعاصر انحازت بعض نماذجه للريف على حساب المدينة. وقال الحسامي: عندما نعود لتاريخ الجنس الروائي نجد أنه ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالمدينة، فهو ابن المدينة، وُلد من رحمها، وكانت المدينة المعاصرة بتعقيداتها، وطبيعة علائقها، مسرحاً مناسباً لنشأة جنس سردي جديد، هو جنس الرواية الذي قيل إنه الملحمة الجديدة، فهو وريث فن الملاحم، ولذا استمد شرعية وجوده منها، ومن زحمة الحياة المدنية التقط تفاصيل حضوره، وهويته، مشيراً إلى أن السرد فن اجتماعي بالدرجة الأولى، يتنفس في الواقع الاجتماعي، ويجوس خلال الشخوص الواقعية، وما يرتبط بها من أحداث، إلا أنه شهد تحولات كثيرة، استقطبه التاريخ تارة، والذات الروائية تارة أخرى، وصورة وجهه؛ فظل يحدق في المرآة بنرجسية عالية، وأصبح هو في ذاته موضوعاً له.

وأكد أنّه لا غرابة أن يلتفت الجنس الروائي إلى الريف بوصفه موضوعاً، كونه لا يزال موضوعاً للأدب بمختلف أنواعه، وأجناسه، وأضاف. والسؤال المطروح: هل يمكن أن يكون الريف/القرية بديلاً عن المدينة يستهوي الخطاب الروائي، ويصبح موضوعاً أثيراً لديه؟ ويجيب: لا ريب في أن يشهد الخطاب الروائي تحولاً في موضوعاته، أو في آليات اشتغاله، وما أكثر ما نلمسه من تحولات عالمية في هذا الخطاب، وهي تحولات بلغت ذروتها في اللحظة الراهنة، وكان الريف رهاناً من رهاناتها، وتحقق هذا التحول في سياق التحول الآلي للمدينة المعاصرة التي أصبحت مدينة يكاد يغيب فيها الإنسان، فالبحث عن حميمية العلاقات الإنسانية، وبراءة الطبيعة، وعلاقة الإنسان بالبيئة، كل ذلك يستدعي عالمه. ولفت الحسامي إلى أنّ هذا الاتجاه نشأ في سياق الفلسفة البيئية التي تدعو لمناصرة البيئة والانتصار لها مما حاق بها في اللحظة المعاصرة، في ظل جشع متزايد للإنسان المعاصر دفعه لاستغلال البيئة في تحقيق طموحاته المادية، ولو على حساب حياة الإنسان، وتحقيق الاستدامة التي تراعي حقوق الأجيال القادمة. وأوضح أنّ له تجربة في قراءة رواية (الضباب أتى.. الضباب رحل) للروائي اليمني محمد عبدالوكيل جازم، إذ قرأها من منظور بيئي، باحثاً عن تمثلات هاجس الريف في الرواية، وتجلياته على مستويات؛ الرؤية، والمضمون، والعناصر السردية.

من جانبه، يرى الروائي علوان السهيمي، أنّ مصطلح رواية القرية أو رواية المدينة ليس مصطلحاً دقيقاً، فلو افترضنا أن رواية القرية هي الرواية التي تتحدث عن القرى، أو أن مسرح أحداثها هو القرية، ورواية المدينة هي الرواية التي يكون فيها مكان الأحداث هو المدينة، فماذا يمكن أن نسمّي الروايات التي يكون مسرح الأحداث فيها مشتركاً بين القرية والمدينة؟

ولفت إلى أنّ التسمية من الأساس فيها لبس أصلاً، إلا أنه إذا سلّمنا بهذه التسمية، فلا يمكنني الجزم ما إذا كانت رواية المدينة في السابق تتفوق في حضورها على رواية القرية، لأنني في ما قرأت، قرأت روايات كثيرة فيها القرية حاضرة بشكل كبير، وبالمقابل قرأت روايات كثيرة تكون فيها المدينة حاضرة بشكل كبير.

ولفت السهيمي إلى أنّه لا يتفق مع المقولة الشهيرة التي تقول إنّ «الرواية ابنة المدينة»، لأن الحكايات تكثر في القرى، ولا تكثر في المدن، فالسمة السائدة في القرى أن تكون الحكايات جزءاً من تاريخ أهلها وثقافتهم عكس أهل المدن. وأضاف: من جهة أخرى فإنّ التنافس، إنْ وُجد فهو صحي للأدب، رغم عدم تسليمي الكامل بمسألة التنافس، كوننا نحب الروايات لأنها تؤثر فينا، وترسم لنا عوالم إنسانية تترك أثراً في نفوسنا، بغض النظر عن مكان هذه العوالم، سواء كانت القرية أو المدينة. وذهب إلى أن وظيفة النقد الإجابة على هذا التساؤل ببحث استقصائي، يجمع كل الروايات الصادرة في مدة معينة ليخرج لنا بنتيجة؛ هل غدت رواية القرية منافساً لرواية المدينة أم لا؟

وأكد السهيمي أنّه باعتباره روائياً لا يكتب الروايات من منطلق أنها رواية في القرية أو في المدينة، إنما يكتبها لأنّه يستشعر أن هناك حكاية ما تستحق أن تروى، وعليها الرهان.

فيما أوضح الروائي علي الأمير، أنه كتب روايته (غصون) الصادرة عام 2016 وكانت أحداثها تدور في القرية لا سيما بين 1970 و1980، وعلى هذا الأساس فهي رواية قرويّة بامتياز، وبعدها كتب رواية (قاع اليهود) الصادرة عام 2018 وجميع أحداثها تدور داخل مدينة صنعاء، فهي رواية مدينة. ولفت إلى أنّ شهرة المدينة أكثر من القرية سيما المدن ذات الأسماء التاريخية، فلا مجال للمنافسة من حيث الشهرة والانتشار بغض النظر عن الجودة. وتساءل الأمير: إذا كان السؤال عن منافسة رواية القرية لرواية المدينة على الساحة اليوم، من حيث الفنّيّات والإبداع، فالجواب حقيقة لست أدري، وذلك لعدم اطلاعي على الأعمال الروائية الصادرة كافة لدينا. وأضاف: لا أرى امتيازاً لأيّ من القرية أو المدينة في تجويد العمل الروائي، فكل منهما يملي مزاجه الخاص على الكاتب، مشيراً إلى أنّ المزاج المتوتر والضغط والضجيج الذي يلاقيه في الطريق داخل مدينة، لن يجده على الطريق الدائري للقرية أو حزامها، بل الهدوء والمتعة وصفاء الذهن، مؤكداً أنّ ذلك لا علاقة له بتجويد العمل الروائي مطلقاً؛ لأن الأمر يتعلق ببراعة الكاتب وفطنة حسّه الإبداعي، سيّما والقُرى أصبحت اليوم مدناً صغرى تتمتع بمعظم مرافق المدن، وربما تتفوق عليها في جودة الحياة، وإنْ كانت الأقلّ ضجيجاً.

ويذهب الروائي عبدالله ناجي إلى أنّ المدينة فيها أحداث متلاحقة، ومصائر متداخلة، وطرقات متشعبة، وأصناف البشر المختلفين فيها جنساً ولوناً وفكراً وديانة، وفي كل زقاق يمكن أن تُولد قصة أو تُستطرد حكاية، وفي هوامشها وشوارعها الخلفية تتكاثر قصصٌ، ويراوح أبطالها المنسيّون بين الملهاة والمأساة، واصفاً الفضاء المدني بالمحتشد بآلاف القصص والحكايات والأفكار، والكثير من النماذج البشرية الصالحة للقيام بدور بطولة في رواية ما، أو المشاركة بأدوار أخرى. وعدّ المُدن، بيئة خالقة للقصص بامتياز، ويصعب أن يُسحب بساط القصص السحري منها، ويُطار به في فضاء آخر.

وأكّد أنّ لكل مكان وزمان حكايته المحتفظة بأنفاس أهله، وإشارات أرضه، ولون سمائه واتجاهات رياحه، ومنها القرية والصحراء والبحر والمستنقعات والجبال والأرياف، تتوازى أحياناً، ويتقدم بعضها في أحايين أخرى، فيما تختلف نسبة التقدم والتوازي من زمن إلى آخر، ومن بلد إلى ثانٍ. ولفت إلى أنّ المملكة تشهد تقدماً ملحوظاً في رواية القرية، أو تكاثراً في أعدادها، وبصيغة أخرى ومقاربة لواقع الحال إلى حد كبير، تناسلاً روائياً قروياً. وتطلّع إلى أن يسهم التناسل بفرادته، في العبور إلى القرية وإلى حيواتها وأحداثها ومكوناتها الأصيلة، ويفضي إلى حكاياتها التي لا تليق بغيرها من فضاءات روائية أخرى، ولفت إلى أنّ جانباً كبيراً من بيئة المملكة يحمل طابعاً قروياً ويعبّر عن أصالة وليس تقليداً روائياً، أو تداعياً وتلاحقاً في السبق الروائي القروي، فبين هذا وذاك، تثبت تلك الرواية على تربتها وتبقى، أو تغوص داخل رمالها وتختفي وتُمحى، ويرى أنّه لا أحد ينافس أحداً داخل الحقل الواحد، ولا رواية قرية تنافس رواية مدينة، إنما تجاورٌ أدبي، تتأخر فيه مسارات وتتقدم أخرى، وتتوازى جميعها وتتكامل في العالم الإبداعي الكبير، وتتتابع في مضمار الفن الروائي.

أميمة الخميس: الريف حديقة خلفية للمدينة

تساءلت الكاتبة الروائية أميمة الخميس عمّن ينازع رواية المدينة عرشها، وقالت: تولدت الرواية في المدينة مع ضمور الإقطاعية ونمو البرجوازية الصناعية قاطنة المدن، المستقلة بقوانينها وأدوات تعبيرها وأيضاً ذائقتها.

ومن هنا وجد النقاد في رواية (دون كيخوته) المكتوبة في بدايات القرن الـ17، الشكل السردي المتكامل الذي تنطبق عليه الشروط الفنية للرواية الحديثة.

وأضافت: رغم المغامرات الهائلة التي خاضتها الرواية الحديثة والأماكن التي طرقتها، يبرز السؤال هنا: هل تظل ابنة للمدينة كما قدمها الناقد لوكاش في كتابه (الرواية كملحمة برجوازية)؟

وترى أنه قدم هذا التصور في سياق معرفي سابق، بينما الآن لم تعد ملامح الصراع الطبقي تظهر جلية في المجتمعات، موضحة أنها لا تدري عن مدى صحة الانشطار المفاهيمي بين رواية القرية ورواية المدينة، على اعتبار الريف هو الحديقة الخلفية للمدينة.

وتساءلت: هل هذا يحوي مضموناً فوقياً به نمايز بين المدينة بتعقيد فضاءاتها وكثافة سكانها وتعدد أنماطهم، وبين الريف بهدوئه وبراءته وبساطة سكانه؟

وتجيب: لا أعتقد أن أسوار لوكاش التي كانت تؤطر الرواية ضمن سياق مدني ما برحت قائمة، كون الرواية تفلتت وانطلقت تجوس العالم وتعبّر عن كل تجربة إنسانية تستحق أن تُدون، مستثمرة في هيكلها البنائي الواسع والمرن، ملتهمة الكثير من الأجناس الأدبية بل والفنية حولها، من شعر ودراما بل فن تشكيلي أيضاً، مشيرة إلى أنه إنْ كان النقاد جعلوا من السرد الروائي «كذباً يقول الحقيقة كاملة» فإن سقف طموحات الرواية ارتفع لتصبح ديواناً للشعوب، وحاضناً لإرثها وتاريخها، وبوابة أولى لها.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version