القدس ليست مجرد جغرافيا يثقلها الاحتلال، ولا ساحة تتنازعها السياسات والخرائط، بل كيان رمزي يسكن الوجدان الإنساني قبل أن تسكنه الحدود. هذه المدينة، التي تلتقي فيها السماء بالأرض، والتاريخ بالوعي، أصبحت أكثر من مجرد مدينة محاصرة بالجدران؛ فهي ذاكرة للعالم ومرآة لضميره الأخلاقي، ومختبر لقدرة الإنسان على الوفاء بفكرة العدالة والكرامة. على مدى قرن من التحولات، أُغرقت القدس في سرديات متناقضة، تسعى بعضها لاحتكار القداسة والبعض الآخر لاختزالها في مفهوم السيادة، مما أدى إلى تراجع صورتها الثقافية في الوعي العالمي.
الهوية الثقافية للقدس: من الجذور الفلسطينية إلى الوجدان الإنساني
تتأصل هوية القدس في الذاكرة الفلسطينية والعربية كمدينة مقاومة، وقداسة، وتاريخ. ولكنها في الوقت ذاته تكتسب بُعدًا كونيًا يجعلها حاضرة في الضمير الإنساني العالمي. لطالما كانت القدس ملتقى للثقافات والأديان، مدينة عبور وتفاعل حضاري فريد من نوعه. لم تعرف القدس الانغلاق، بل ازدهرت بالتنوع الذي جعلها رمزًا للإنسانية قبل أن تتحول إلى عنوان للنزاع.
ورغم محاولات الاحتلال، منذ عام 1948، لتفريغ هذه الهوية من مضمونها، ظلّت الذاكرة الجمعية للفلسطينيين أقوى من محاولات الطمس. حمل الفلسطينيون القدس في الوعي الشعبي كرمز للكرامة والصمود، متجاوزين بذلك اعتبارها مجرد موضوع سياسي. إن تعزيز الهوية الفلسطينية في القدس هو صمام الأمان لمستقبلها.
مستقبل هوية القدس يكمن في الدمج بين انتمائها المحلي ورمزيتها الكونية. يجب أن تصبح المدينة نموذجًا لمدينة تعيش فيها الإنسانية بتنوعها، دون أن تفقد جذورها الفلسطينية والعربية، لتتحول الهوية من مصدر مواجهة إلى مشروع وطني إنساني جامع. أدرك الاحتلال أن أخطر أشكال الصمود هي تلك التي تنمو في الوعي، لذلك يستهدف التعليم والمناهج والفضاء البصري العام في محاولة لفرض روايته التاريخية والسياسية.
الثقافة المقدسية: جبهة صمود “حين يصبح الوعي سلاحًا”
في ظل الاحتلال وتراجع الحضور العربي، أصبحت الثقافة المقدسية سلاحًا استراتيجيًا للحفاظ على الذاكرة وحماية الهوية. الفنانون يرسمون ليبقي الوجود حيًا، والمعلمون يدرّسون للحفاظ على اللغة، والكتاب يوثقون للمقاومة ضد المحو. هذا الصمود الثقافي هو خط الدفاع الأول عن القدس.
إن استهداف الاحتلال للتعليم والمناهج والفضاء البصري العام هو اعتراف ضمني بقوة الثقافة في تشكيل الهوية والمقاومة. ومع ذلك، استطاع الأدب والفن الفلسطينيان إعادة بناء السردية البصرية والأدبية، وربط الأرض بالكرامة والرمز بالإنسان. هذا العمل الإبداعي يُحيي الروح الفلسطينية في المدينة.
الثقافة المقدسية ليست نشاطًا إبداعيًا فحسب، بل هي بنية دفاعية رمزية تعيد إنتاج الهوية من داخلها، وتواجه مشروع الأسرلة بمنظومة من المعنى والممارسة. القدس تقاوم بالقصيدة كما بالموقف، وباللوحة كما بالمؤسسة الثقافية، وبالوعي الجمعي الذي يرفض التطبيع الرمزي والسياسي. إن الحفاظ على الفنون الفلسطينية التقليدية، مثل التطريز والموسيقى، هو جزء أساسي من هذا الصمود الثقافي.
القدس كضمير إنساني عالمي: “من الرمز السياسي إلى المعنى الكوني”
ما يميز القدس ليس مجرد كونها مدينة فلسطينية عربية، بل كونها تحمل في وجدانها معنى الإنسانية المشتركة. إنها مركز للأديان السماوية، ومكان لتلاقي الحضارات، ومرآة لتجربة الإنسان في بحثه عن العدالة والسلام. هذا البعد الروحي والثقافي يجعل القدس ذات أهمية عالمية.
تاريخيًا، لم يكن توصيف القدس مسألة وجدانية فقط، بل قانونية أيضًا. فمنذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لعام 1947، الذي اقترح وضع القدس تحت نظام دولي خاص (Corpus Separatum)، اعتُبرت القدس كيانًا يتجاوز السيادة الأحادية ويخضع لحماية دولية، نظرًا لقداستها وتنوعها البشري.
هذا المنظور القانوني تعزز بعد عام 1967، عندما أكد مجلس الأمن أن ضمّ القدس بالقوة غير شرعي، ورفض إعلان إسرائيل للقدس “عاصمة موحدة” (القرار 478 لعام 1980). وهذا يثبت أن هوية القدس ليست مجرد سردية فلسطينية، بل حقيقة معترف بها دوليًا، حتى وإن جرى انتهاكها عمليًا. إن استعادة الشرعية الدولية للقدس أمر ضروري لحمايتها.
يمكن للقدس أن تتحول من رمز للمواجهة إلى رمز للضمير العالمي، إذا ما أُعيد تقديمها للعالم كمدينة تجسد القيم التي يدعيها العالم ذاته: الكرامة، العدالة، والحرية. هذا يتحقق عبر بناء تحالف ثقافي وإنساني حول القدس، يتجاوز الخطاب السياسي إلى خطاب قيمي كوني، وهو المدخل الأنجع لحمايتها من العزلة الرمزية.
القدس 2030: الهوية الثقافية ومستقبل مدينة الإنسان
ستواجه القدس، في إطار رؤية إستراتيجية تمتد حتى أفق عام 2030، منعطفًا مصيريًا بين مشاريع الأسرلة الشاملة ومحاولات الصمود الثقافي والمجتمعي. تهدد التحولات الديمغرافية والإدارية المتسارعة الطابع العربي للمدينة، في حين ما تزال المبادرات المقدسية في مجالات التعليم والثقافة والفن تبني شبكات مقاومة محلية صامتة، تعيد تعريف الوجود الفلسطيني في المدينة وتثبت حضوره.
منذ اعتراف الإدارة الأميركية، في ديسمبر/كانون الأول 2017، بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارتها إليها، تقلصت قدرة النظام الدولي على أداء دور الضامن الرمزي لوضع المدينة، وانتقل العبء الفعلي إلى المبادرات المقدسية المحلية. وقد جعل ذلك قضية القدس أقل حضورًا كملف قانوني دولي وأكثر وضوحًا كمعركة صمود يومية على المعنى والهوية.
يتطلب مستقبل القدس رؤية ثقافية طويلة المدى تحول الفعل الثقافي إلى سياسة عامة تضمن بقاء الهوية حاضرة في المدرسة، والشارع، والمشهد البصري، وفي الوعي الجمعي. تستند هذه الرؤية إلى ثلاثة محاور: إعادة بناء السياسات التعليمية والثقافية لتكريس الهوية الفلسطينية في الأجيال الجديدة، وتمكين المؤسسات المقدسية من الانفتاح على العالم عبر شراكات ثقافية دولية، وتحويل الصمود من رد فعل إلى مشروع استدامة في الثقافة والاقتصاد والتعليم والفن.
بهذا يمكن للقدس أن تدخل العقد القادم كمدينة تُنتج الثقافة لا كموضوع للسيطرة عليها، وكمدينة تُعلّم العالم معنى الكرامة الإنسانية. فصمود القدس كمدينة فلسطينية عربية إنسانية مرهون ببقاء مؤسساتها الثقافية حية ومستقلة، لأنها ليست مجرد مكان يدافع عنه، بل رمز حضاري يختبر إنسانية العالم في قدرته على حماية المعنى قبل الحجر.
تبقى القدس، في زمن تتناقص فيه قيم الإنسانية، الدليل الحي على أن المعنى لا يحتل، وأن الذاكرة، ما دامت تنبض بالثقافة والوعي، قادرة على صياغة مستقبل يعيد للمدينة مكانتها في قلب العالم. إن الحفاظ على القدس يمثل حماية لقيم العدالة والكرامة الإنسانية، التي تشكل جوهر هويتنا المشتركة.
كاتب وباحث وفنان بصري فلسطيني من القدس، تُركّز أعمالُه على قضايا الهوية والسياسات الثقافيّة والصمود، ويبحث في دور الثقافة والعمل الأهلي في مواجهة الهيمنة وتعزيز الحضور الفلسطيني في المدينة.


