تشهد صناعة الأسلحة الألمانية طفرة لم يسبق لها مثيل، خاصة بعد قرار الحكومة الحالية جعل الجيش الألماني الأقوى في القارة الأوروبية من خلال رصد ميزانية مفتوحة.
وتعتزم الحكومة الألمانية استثمار مليارات اليوروهات في توسيع الجيش لتحقيق أهداف سياستها الأمنية، ويعوّل السياسيون على أن يؤدي ذلك إلى انتعاش الاقتصاد بعد عامين مؤلمين من الركود.
وكان البرلمان الألماني (البوندستاغ) قد مهد الطريق لاقتراض ديون غير مسبوقة، على أن تخصص 400 مليار يورو (نحو 465 مليار دولار) لتحسين البنية التحتية المتهالكة والتعليم والصحة، إضافة إلى 100 مليار يورو (نحو 116 مليار دولار) لحماية المناخ.
بينما لم تضع ألمانيا سقفا لاستثماراتها العسكرية المستقبلية، وقررت تمويل كل ما تحتاجه لجعل جيشها “قادراً على الحرب”، كما يطالب وزير الدفاع بوريس بيستوريوس منذ الحرب الروسية الأوكرانية، إلى جانب سعي المستشار فريدريش ميرتس لجعل الجيش الألماني أقوى جيش تقليدي في أوروبا.
الآثار الاقتصادية المحتملة
وخلص خبراء معهد كيل للاقتصاد العالمي إلى أن زيادة الإنفاق الدفاعي قد يكون لها تأثير توسعي على الاقتصاد. ووفقاً لتقديراتهم فإن الناتج المحلي الإجمالي لعموم أوروبا قد ينمو بنسبة تتراوح بين 0.9% و1.5% إذا ارتفع الإنفاق الدفاعي من 2% إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي.
ولتحقيق ذلك ينبغي تمويل الزيادات في الإنفاق الدفاعي بهذا الحجم إلى حد كبير من خلال الدين الحكومي بدلاً من زيادات الضرائب، كما خلص تقرير معهد كيل.
ويرى الخبراء أنه في حال عدم حدوث ذلك، فإن نمو الناتج المحلي الإجمالي قد يكون أقل أو حتى سلبياً بسبب ضعف الاستثمار المؤسسي والاستهلاك الخاص، وأكدوا أن الاستثمار العسكري لا يؤثر سلباً على الاقتصاد المحلي حتى في فترات الركود، معتبرين أن ضرر فترات الركود أكبر من مخاطر الاستثمار العسكري، وأن المكاسب الإنتاجية الناجمة عن الإنتاج العسكري قد تكون كبيرة، خاصة تلك المرتبطة بالبحث والتطوير.
رؤية تحليلية من معاهد ألمانية
من جهتها، ترى تيريزا شيلدمان من معهد أبحاث الاقتصاد الألماني في حديثها للجزيرة نت، أنه عندما يتعلق الأمر بتوسيع البنية التحتية، يكون من الأصعب تقييم النفقات المرتبطة مباشرة بالدفاع.
لكنها أوضحت أن “المؤكد هو أن اتفاقية حلف شمال الأطلسي الجديدة تسمح باحتساب الإنفاق على البنية التحتية القابلة للاستخدام العسكري ضمن نسبة 5% المستهدفة من الناتج المحلي الإجمالي، بما يصل إلى 1.5%.
وهذا من شأنه أن يزيد من إلحاح الاستثمارات الفدرالية في شبكات السكك الحديدية والطرق، التي من المرجح تمويلها من صندوق البنية التحتية الخاص في السنوات القادمة على أي حال”، حسب قول شيلدمان.
بافاريا في صدارة المكاسب
وتعد ولاية بافاريا (جنوب ألمانيا) الموقع الأهم فيما يتعلق بالتجهيز العسكري والمركبات والطائرات وغيرها من المعدات. وحسب اتحاد الصناعة البافاري، يعمل حوالي 45 ألف شخص في قطاع الدفاع والأمن في الولاية، مع وجود توجه لزيادة العدد، حيث تتخذ شركات مثل “إيربا وديل” و “إم بي دي إيه” وغيرها من الولاية مقراً رئيسياً لصناعة المعدات العسكرية، إلى جانب وجود شركات ناشئة سريعة النمو مثل شركة “كوانتوم” سيمنز لتصنيع الطائرات المسيرة (درون).
وأشار اتحاد الصناعة البافاري إلى أن الموردين الرئيسيين يعدون عاملاً رئيسياً في نجاح قطاع الدفاع البافاري، حيث تُصنع شركة “رينك”، ومقرها أوغسبورغ، علب التروس ليس فقط للدبابات الألمانية، بل أيضاً للمركبات في جميع الدول الغربية تقريباً، بينما تعد شركة “هينسولدت”، الواقعة شرق ميونخ، من أهم موردي تكنولوجيا الاستشعار.
وقد أدى رفع الميزانية الدفاعية في ألمانيا إلى ارتفاع أسهم الشركات المصنعة للأسلحة بشكل ملحوظ.
ويقول الخبير الاقتصادي فولفغانغ مولكه للجزيرة نت: “تُعدّ إعادة التسلح برنامجاً تحفيزياً اقتصادياً محدوداً. وليست شركات الدفاع وحدها هي المستفيدة من الاستثمارات، فقطاع البناء، على سبيل المثال، من بين المستفيدين، من خلال تطوير البنية التحتية للنقل. كما أن البلديات التي لديها قواعد عسكرية من بين المستفيدين أيضاً. ويكفل توسيع الكادر بعشرات الآلاف من المجندين وحده ذلك”.
تحديات إنتاجية ومخاطر تمويلية
وتتمثل إحدى العقبات في أن المصنعين الألمان ينتجون في الغالب بموجب عقود تحتاج إلى وقت طويل ومكلفة، في حين يمكن للمصنعين الكبار، وخاصة من الولايات المتحدة، تقديم إنتاج ضخم وبأسعار أقل بكثير من الشركات الألمانية.

علاوة على ذلك، لا يمكن إنتاج بعض أنظمة الأسلحة المهمة إلا من قِبل مصنعين أجانب في الوقت الحالي، إضافة إلى أنه في الغالب يُخصص جزء كبير من العقود الحكومية المتوقعة لشركات أجنبية، كما تقول شيلدمان.
وأضافت الخبيرة الاقتصادية أنه “من المُرجّح أن تزداد واردات استثمارات المعدات من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، على وجه الخصوص، نتيجة لذلك. وبشكل عام هناك أيضاً خطر متزايد من تباطؤ الإنتاج بشكل كبير بسبب نقص المواد الخام، مثل المعادن النادرة، التي تخضع لقيود التصدير الصينية”.
أما مولكه، فيرى أن الاقتصاد الألماني سيواجه تحديات كبيرة، خاصة في ظل “حاجة الجيش للمزيد من الشباب للخدمة العسكرية، في وقت تعاني فيه سوق العمل من نقص الكفاءات والأيدي العاملة. إضافة إلى تمويل إعادة التسلح بديون جديدة”.
ويضيف “هذا يعني تزايد عبء الفوائد على مدى العقود القادمة، مما يقلل من مرونة الحكومة في الإنفاق، وخاصة على الاستثمارات في الاقتصاد الحديث. وقد تشمل العواقب، على سبيل المثال، انخفاض الإنفاق على الأبحاث أو تخفيضات في الخدمات الاجتماعية”.
تأخر في تنفيذ العقود والتوقعات المستقبلية
ومن المقرر أن تُقر موازنة العام القادم في خريف هذا العام، مما يعني عدم طرح عقود جديدة للمناقصات حتى إقرار الميزانية، لذلك “ليس من المرجح أي إنفاق حكومي ملموس حتى ذلك الحين” وفق شيلدمان.
وأضافت “مع ذلك، نرى أن الشركات في ألمانيا تعمل بالفعل على توسيع قدراتها، وعلى وجه الخصوص، يتم المضي قدماً في بناء مرافق إنتاج جديدة، ويتم توظيف موظفين جدد سيوفر بعضهم آفاقاً جديدة للعاملين في صناعة السيارات التي لا تزال تعاني”.
وأشارت أن الارتفاع الكبير في أسعار أسهم شركات الدفاع الألمانية المدرجة خلال الأشهر الستة الماضية يعني أنه من المتوقع زيادة كبيرة في المبيعات في المستقبل القريب نتيجة ارتفاع الإنفاق الدفاعي.