يؤدي التعليم بوجه عام إلى حراك اجتماعي في ظل البيئات الطبيعية ونُظم الحكم التي تتسم بالديمقراطية الحقيقية وسيادة دولة القانون.

ولكن في البلدان المتخلفة، التي تسيطر على نُظم الحكم فيها حكومات تتسم بالدكتاتورية، فإن التعليم يتحول إلى عبء اقتصادي واجتماعي كبير على الأسر، وعلى الأفراد المتعلمين، الذين يصابون باليأس، ولا يكون أمامهم إلا التفكير في ترك البلاد والهجرة للخارج.

وكانت قرارات رئيسة الوزراء -قبل الإطاحة بها- والمعنية بإتاحة حصة كبيرة من الوظائف العامة لصالح أبناء المقاتلين وأقاربهم، الذين ساهموا في انفصال بنغلاديش عن باكستان، هي قاصمة الظهر لحكومة حزب رابطة عوامي بقيادة الشيخة حسينة.

وتعد الفترة التي حكمت فيها الشيخة حسينة بشكل متصل (2009-2024) هي الأكبر في تاريخ بنغلاديش منذ استقلالها، وبالتالي كان أمامها فرصة كبيرة لتقديم أجندة تنموية تنتشل فيها المواطنين من الفقر والبطالة، وتحقيق طفرة تنموية تغير من طبيعة البنية الأساسية التي تفتقر إليها البلاد.

ورغم أن حزب رابطة عوامي بقيادة الشيخة حسينة يصنف على أنه حزب يساري، إلا أنه انحاز لرجال الأعمال ومؤسسة الجيش، وتنمية نزعة الصراع السياسي، والتنكيل بالخصوم السياسيين، مما أوجد حالة من الغضب الشعبي، نتيجة تراكمات لفترة وصلت إلى 15 عامًا متصلة في الحكم.

وقراءة المؤشرات الاقتصادية لبلد ما تحتاج إلى نظرة كلية، وربط تلك المؤشرات ببعضها بعضًا، ومدى التأثير الإيجابي والسلبي لكل منها على الآخر.

وثمة قراءات ترى تحسنًا في أداء المؤشرات الاقتصادية الكلية لبنغلاديش خلال فترة إدارة الشيخة حسينة، ولكن هذا الأمر على غير الحقيقة، وهو ما سنتناوله من خلال الإجابة عن بعض الأسئلة الآتية.

وستكون مقارنات المؤشرات الاقتصادية بين عامي 2009 و2023 إن أمكن، وهي الفترة التي يتاح عنها بيانات لحكم الشيخة حسينة التي أزيحت عن السلطة في 5 أغسطس 2024، وسنعتمد بشكل رئيس على الأرقام الخاصة بقاعدة بيانات البنك الدولي، لما توفره من أرقام عن فترات زمنية ممتدة.

 ما ملامح أداء الناتج المحلي الذي حقق زيادة على مدار 15 عامًا؟

تشير بيانات قاعدة البنك الدولي إلى أن الناتج المحلي الإجمالي لبنغلاديش قفز من 102.4 مليار دولار إلى 437.4 مليارا عام 2023، ولكن هذه الأرقام تتضمن الناتج بالأسعار الجارية، أي تحوي معدل التضخم على مدار هذه المدة.

وتشير أرقام نفس المصدر إلى أن معدل التضخم وصل إلى 5.4% عام 2009، ثم ارتفع إلى 11.4% عام 2011، وبلغ معدل التضخم عام 2023 نسبة 9.9%، أي أن معدل التضخم اقترب من الضعف خلال فترة المقارنة.

ومن اللافت أنه رغم زيادة قيمة الناتج المحلي الإجمالي، فإن الادخار كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي تراجع بين عامي 2009 و2023، فبعد أن كان 39% عام 2009، وصل إلى 35% عام 2023، مما يعني أن أعباء المعيشة تزايدت على الأسر خلال حكم الشيخة حسينة.

ما أوضاع الفقر والدخل في بنغلاديش؟

بلغ عدد السكان عام 2023 نحو 172.9 مليون نسمة، مقارنة بـ146.7 مليونا عام 2009، أي أن عدد السكان زاد خلال فترة حكم الشيخة حسينة بنحو 26.2 مليون نسمة.

وتأتي هذه الزيادة في عدد السكان على الرغم من انخفاض معدلات الخصوبة للمرأة في بنغلاديش. ففي عام 2009 كان المعدل 2.6%، وانخفض إلى 2.3% عام 2023.

وتوضح الأرقام الخاصة بتقرير التنمية البشرية لعام 2023/2024، الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، أن بنغلاديش احتلت المرتبة 129 من بين 193 دولة شملها مؤشر التنمية البشرية، وأن الفقر متعدد الأبعاد يشمل 24.6% من السكان، وأن نسبة 42.3% من السكان يشعرون بشدة الحرمان، وذلك خلال الفترة 2011-2022.

كما أن توزيع الدخل في بنغلاديش يعكس حالة من عدم العدالة، فأفقر 10% من السكان يحصلون على 3.5% من الدخل، بينما أغنى 10% من السكان يحصلون على قرابة 29% من الدخل.

 ما حقيقة أرقام البطالة في بنغلاديش؟

الأرقام الخاصة بالبطالة مثيرة للجدل، ففي ظل اقتصادي يمكن اعتباره بدائيا، أو في أحسن التقديرات تقليديا مصحوبًا بعدد سكان هائل، تأتي أرقام البطالة لتشير إلى أن معدلها عام 2009 كان حوالي 5%، ووصل عام 2023 إلى 5.1%، وهذا يعد مقبولا جدا في ظل اقتصاد دولة نامية أو حتى صاعدة.

ولكن المشكلة تكمن في تلك الإحصاءات التي تُعد أي فرصة عمل، أيًا كان مجالها أو العائد منها، خروجا للفرد من تصنيف البطالة. فسائقو الركشة (وسيلة مواصلات بدائية) -الذين لا يجدون قوت يومهم بعد يوم عمل شاق ومضن- تعدهم الإحصاءات في عداد العاملين.

وهنا تظهر حقيقة أداء الناتج المحلي الإجمالي الذي يوصف في حالة بنغلاديش بأنه غير احتوائي بشكل كبير، فلو أن الزيادة المتحققة في الناتج المحلي خلال حكم الشيخة حسينة كان من مصادر إنتاجية حقيقية، وذات قيمة مضافة كبيرة، لكانت أضافت فرص عمل أفضل وأكثر آدمية مما هو عليه الواقع الآن.

وبالتالي يمكننا القول إن إحصاءات البطالة في بنغلاديش مضللة، ويصدق عليها مقولة “الأرقام تصف الواقع ولا تعكس الحقائق”.

ما طبيعة أداء التجارة الخارجية؟

تظهر الأرقام الخاصة بالتجارة الخارجية لبنغلاديش أنها لا تزال تعاني من عجز في الميزان التجاري السلعي، بسبب ضعف الهيكل الإنتاجي فلا يزال شديد التقليدية، لا يتجاوز الأداء التقليدي في قطاع الزراعة وكذلك الصناعات التقليدية، وبخاصة صناعة الملابس الجاهزة.

وقد بلغ حجم التجارة السلعية الخارجية 143.9 مليار دولار، منها 88.2 مليارا نظير الواردات السلعية، بينما كانت الصادرات السلعية بحدود 55.7 مليارا، ولذلك فالبلاد تعاني عجزًا تجاريًا بنحو 32.5 مليارا.

وتحليل ومعرفة طبيعة الواردات والصادرات السلعية مفيد في معرفة هشاشة أداء الناتج المحلي الإجمالي، فالنسبة الكبيرة من الصادرات السلعية تأتي من صناعة الملابس الجاهزة، وبما يشكل 80% من قيمة الصادرات. ثم تأتي بعد ذلك منتجات الجوت والمفروشات المنزلية والروبيان والأسماك المجمدة، بينما الواردات السلعية تنحصر في النفط الذي يشكل نحو 11% من الواردات السلعية، ثم المنسوجات والمواد الغذائية، وزيوت الطعام، والمواد الكيميائية والخيوط والمواد البلاستيكية والمطاطية.

ما وضع الديون الخارجية فترة حكم حسينة؟

الديون الخارجية معضلة الدول النامية لما تمثله من أعباء على الموازنة العامة للدولة، وبخاصة إذا لم يحسن توظيفها في إطار تنموي، وفي حالة بنغلاديش نجد أن الدين العام الخارجي زاد بنسبة كبيرة.

ففي عام 2009 كانت قيمة الدين الخارجي 25.3 مليار دولار، وقفز عام 2022 ليصل إلى 97 مليارا، أي أن قيمة الزيادة بلغت 72 مليارا. وتبلغ نفقات الفوائد كنسبة من النفقات العامة بحدود 24% بينما تبلغ نفقات العاملين بالدولة بحدود 20%.

ومن المشكلات التي تواجه الدول النامية، ومن بينها بنغلاديش، أن الجهات الرقابية على إدارة الديون، عادة ما تكون يدها رخوة، بسبب دكتاتورية الحكومات، وهو أمر تحقق فترة حكم الشيخة حسينة، التي اتسمت فترة حكمها الأخيرة بمزيد من التنكيل والاعتقال للمعارضة.

ما عناصر الضعف والقوة بالاقتصاد البلاد إبان حكم حسينة؟

لا يخلو مجتمع من عناصر قوة، وأخرى تبين أوجه الضعف به، وإذا ما نظرنا إلى واقع اقتصاد بنغلاديش على الصعيد الاقتصادي، فإننا نجد الآتي.

– الوفرة السكانية، فالموارد البشرية لدى بنغلاديش يمكن الاستفادة منها بشكل أفضل، مما يساعد في زيادة الناتج المحلي الإجمالي داخل البلاد من جهة، بشرط تراجع معدلات الفساد، وتوجيه الإنفاق الحكومي للتعليم والصحة.

– إجادة أبناء بنغلاديش بشكل عام الإنجليزية تمكنهم من المنافسة على العديد من الوظائف خارج البلاد، سواء كانت تلك الوظائف عن بعد أو بشكل مباشر.

– تتمتع البلاد بمساحات كبيرة على خليج البنغال، وكذلك وجود مجموعة من الأنهار العذبة، ويمكن من خلال زيادة الثروة السمكية للبلاد، وكذلك يمكن الإفادة منها في توليد الكهرباء.

– تملك بنغلاديش مساحات جيدة من الغابات التي يمكن من خلالها التوسع في صناعة الأخشاب، أو تنشيط قطاع السياحة، وبخاصة سياحة الغابات المفتوحة.

– تتمتع بنغلاديش بوجود أنواع كثيرة من الفواكه التي تتميز بها شبه القارة الهندية، ويمكن أن تقام عليها صناعات غذائية.

– لا تزال بنغلاديش تعاني من غياب شبكة للري والصرف، حتى يستفاد من الأمطار التي تنزل لنحو 8 أشهر كل عام، وتعاني البلاد بعد انتهاء موسم الأمطار من الجفاف، بسبب تسرب مياه الأمطار إلى خليج البنغال. وتُحرم الزراعة خلال فترة الجفاف من عمليات الري المنتظمة.

– الاعتماد في قطاع الصناعة فقط على صناعة الملابس الجاهزة يؤدي إلى ضعف أداء الناتج المحلي الإجمالي، ويحرم البلاد من تحقيق قيمة مضافة أكبر، ولابد من الاتجاه لصناعات أخرى تحقق قيمة مضافة أعلى، مثل الصناعات التجميعية للسلع المعمرة، أو الصناعات الإلكترونية.

– يعد استيراد الطاقة أحد العوامل السلبية لدى بنغلاديش، على الرغم من إنتاج البلاد من الغاز الطبيعي، ولكن لوحظ أن الإنتاج من الغاز الطبيعي عام 2023 تراجع بنحو 5% عما كان عليه عام 2012.

– لا يزال ترتيب بنغلاديش على مؤشر مدركات الفساد متدنيا، ويشير إلى شيوع الفساد، فحسب أرقام المؤشر عام 2023 جاءت البلاد على 24 درجة فقط من 100 درجة هي إجمالي درجات المؤشر.

ما المستقبل المنتظر لاقتصاد بنغلاديش بعد إزاحة حسينة؟

في ظل الانتفاضات الشعبية التي تؤدي إلى تغيير الحكام، عادة ما تكون هناك فترات انتقالية، ورغبة لدى الحكام الجدد في الحصول على ثقة المواطنين، وقد حملت الأخبار -الواردة عبر وسائل الإعلام- ترشيح المحتجين وقائدي الحركة الطلابية الخبير الاقتصادي الكبير الدكتور محمد يونس لإدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية، وأنهم يطالبون بتنحي الجيش عن إدارة هذه المرحلة.

وبلا شك فإن وجود يونس مفيد، ويستلزم من الرجل إعادة ترتيب الملفات الاقتصادية والاجتماعية، كما أن عليه أن يجهز أجندة تشريعية تجنب البلاد عمليات التحيز السلبي لصالح فئات أو شرائح معينة من الشعب.

وستأتي المرحلة الأصعب بعد إجراء الانتخابات ووجود حكومة مسؤولة لتقود عملية تنمية حقيقية، ويمكنها تغيير الواقع الاقتصادي والاجتماعي في بنغلاديش، والإفادة من الدراسات المتراكمة عبر المؤسسات الدولية أو داخل البلاد، وسيكون كل ذلك شريطة عدم العبث والتوظيف السياسي السلبي بين الأحزاب والقوى السياسية، وقد يساعد على نجاح التجربة ألا يغيب عنها الطلاب.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.