في لحظة بدت فيها المحكمة الجنائية الدولية أقرب ما تكون إلى اختبار قدرتها على فرض ولايتها خارج حدود “رضا القوى الكبرى”، جاءت العقوبات الأميركية على قاضيين فيها لتكشف أن الصراع لم يعد قانونيا بحتا، بل مواجهة سياسية على مستقبل النظام الدولي القائم على القواعد. هذه الخطوة تثير تساؤلات جوهرية حول مستقبل العدالة الدولية، ومدى استقلالية المحكمة في ظل الضغوط السياسية المتزايدة.
العقوبات الأمريكية على قضاة المحكمة الجنائية الدولية: تصعيد غير مسبوق
استهدفت العقوبات الأمريكية قاضيين أيدا شمول الأراضي الفلسطينية ضمن اختصاص المحكمة وأيّدا مذكرتي التوقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت. هذه الخطوة، التي ناقشها برنامج “ما وراء الخبر”، بدت بمثابة رسالة ترهيب واضحة: أي مسار قضائي يقترب من إسرائيل سيُواجَه بأدوات القوة الأمريكية، بدلًا من المسارات القانونية التقليدية.
لم يقرأ المحللون هذا التحرك كاعتراض إجرائي على اختصاص المحكمة، بل كرغبة في إعادة رسم حدود العدالة الدولية وفقًا لميزان القوة، وليس وفقًا لنصوص القانون. فواشنطن، التي رحبت بتوسيع صلاحيات المحكمة عندما استهدفت خصومها، عادت اليوم لتقويضها عندما تطال حليفها الأوثق.
تناقض أمريكي في التعامل مع المحكمة الجنائية الدولية
تبرز هنا ازدواجية واضحة في السياسة الأمريكية. فكما أوضح الدكتور لقاء مكي، الباحث في مركز الجزيرة للدراسات، الولايات المتحدة لا تعارض المحكمة من حيث المبدأ، بل تعارضها حينما تتحول إلى قيد على الهيمنة. النظام الدولي القائم على القواعد مقبول طالما يخدم المصالح الأمريكية، لكنه يصبح عبئًا حين يفتح باب المساءلة أمام قادة إسرائيل أو جنود أمريكيين.
هذا التناقض يتجلى بوضوح عند مقارنة الموقف الأمريكي من مذكرات التوقيف الصادرة بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث أبدت واشنطن دعمًا صريحًا للمحكمة رغم أن موسكو ليست طرفًا في نظام روما. بالمقابل، نرى رفضًا قاطعًا لاختصاص المحكمة في الأراضي الفلسطينية، على الرغم من انضمام السلطة الفلسطينية رسميًا إلى نظام روما منذ عام 2015.
تبريرات قانونية واهية ودبلوماسية الترهيب
حاول جيمس روبينز، كبير الباحثين في المجلس الأمريكي للسياسة الخارجية، تبرير العقوبات بالقول إن المحكمة الجنائية قد تجاوزت ولايتها، لأن الولايات المتحدة وإسرائيل ليستا طرفين في نظام روما المؤسس للمحكمة، وأن واشنطن لا تعترف بالدولة الفلسطينية.
لكن هذا التبرير لا يفسر اللجوء إلى عقوبات شخصية ضد القضاة بدلًا من الطعن القانوني أو تجاهل قرارات المحكمة. هنا تتضح فكرة “دبلوماسية الترهيب” كأداة سياسية لا قانونية، تستهدف القضاة كأفراد، وتفرض حظرًا على السفر وتجميدًا للأصول وتعطيلًا للتعاملات المالية، في محاولة لردع أي اجتهاد قانوني مشابه مستقبلاً.
اعتداء على استقلال القضاء وتقويض للقانون الدولي
أعتبر أستاذ القانون الدولي والمدعي العام السابق في المحكمة الجنائية الدولية جيفري نايس هذه الخطوة اعتداءً مباشرًا على استقلال القضاء الدولي، ومحاولة لتفكيك القانون الدولي الإنساني برمته. فمعاقبة دولة لقضاة لمجرد ممارسة صلاحياتهم يعني، وفق تعبيره، أن القانون لا يسري إلا على الضعفاء.
هذا التقويض للقانون يثير مخاوف واسعة، عبرت عنها المحكمة الجنائية الدولية نفسها، والتي وصفت العقوبات بأنها تهديد خطير لسيادة القانون. هذا الوصف عززته مواقف أممية وأوروبية، بما في ذلك تحذير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وقلق الحكومة الهولندية، بصفتها الدولة المضيفة للمحكمة.
محدودية الردود الدولية وخطر ترسيخ السوابق
ورغم هذه الردود، بقيت في إطار الإدانة الرمزية، دون ترجمة عملية قادرة على كبح السلوك الأمريكي. فواشنطن، التي تمتلك أدوات الضغط المالي والسياسي، لا تبالي بالاستنكار الأخلاقي، طالما أن العقوبات تحقق هدفها الردعي.
الأخطر من ذلك، هو ترسيم سابقة مفادها أن أي محاولة لمحاسبة قادة دول حليفة لواشنطن ستواجه بالأسلوب ذاته. هذا يشكك في جدوى انضمام الدول الصغيرة والمتوسطة إلى منظومة العدالة الدولية.
سؤال قديم جديد: هل القانون الدولي أداة عدالة أم سياسة؟
تعيد هذه المواجهة طرح السؤال القديم الجديد: هل القانون الدولي أداة عدالة أم أداة سياسية بيد الأقوياء؟ فالتاريخ الحديث للمحكمة الجنائية، من السودان إلى أفغانستان وأوكرانيا، يُظهر أن معيار “السيادة” يُستدعى أو يُهمل وفق هوية المتهم، لا وفق جسامة الجريمة.
وفي حالة غزة، يكتسب هذا السؤال بعدًا إضافيًا. فالمحكمة التي فتحت تحقيقاتها منذ عام 2015 لم تتمكن حتى الآن من وقف الجرائم أو ردعها، لكن مجرد اقترابها من دائرة مساءلة إسرائيل كان كافيًا لإطلاق حملة أمريكية مضادة.
مستقبل النظام الدولي: صراع بين القوة والقانون
في المحصلة، لا تبدو العقوبات الأمريكية مجرد رد فعل ظرفي، بل جزءًا من معركة أوسع على شكل النظام الدولي المقبل. معركة تُعرض فيها القوة بديلًا عن القانون، والردع السياسي بديلًا عن العدالة الدولية، في وقت تتآكل فيه ثقة العالم بقدرة المؤسسات الدولية على حماية الضعفاء من بطش الأقوياء. ويتطلب هذا الوضع تعزيزًا للعمل متعدد الأطراف، ودعمًا فعالًا للمحكمة الجنائية الدولية، والضغط على الدول الكبرى لالتزامها بالقانون الدولي. كما يستدعي البحث عن آليات جديدة لضمان تحقيق المساءلة القانونية، ووضع حد للإفلات من العقاب، وبناء نظام دولي أكثر عدالة وإنصافًا.
الكلمات المفتاحية: العدالة الدولية، المحكمة الجنائية الدولية، المساءلة القانونية.


