بعد نحو أربعة أشهر على صدور مرسوم رئاسي فلسطيني بتشكيل لجنة لصياغة دستور مؤقت، يشهد المشهد السياسي والقانوني الفلسطيني جدلاً واسعاً. هذا الجدل تصاعد مع تقديم طعن دستوري في المرسوم، بالتزامن مع اعتقال أحد النشطاء الذين تقدموا بالطعن. يثير هذا الأمر تساؤلات حول مستقبل الدستور الفلسطيني، وآلية الانتقال من السلطة إلى الدولة، وحقوق وحريات المواطنين.

مرسوم صياغة الدستور المؤقت: خلفيات وتداعيات

في السادس عشر من أغسطس/آب الماضي، أصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس مرسوماً رئاسياً رقم (4) لسنة 2023، يقضي بـ “تشكيل لجنة صياغة الدستور المؤقت للانتقال من السلطة إلى الدولة”. تهدف اللجنة، وفقاً للمرسوم، إلى صياغة دستور مؤقت ينسجم مع وثيقة إعلان الاستقلال، ومبادئ القانون الدولي، وقرارات الشرعية الدولية، ومواثيق حقوق الإنسان. أكد الرئيس عباس في أكثر من مناسبة التزامه بإجراء انتخابات عامة خلال عام من انتهاء الحرب على غزة، وتكليف الجهات المختصة بإنجاز هذا الدستور المؤقت.

إلا أن هذا المرسوم لم يخلُ من الجدل. فبينما رأى البعض فيه خطوة ضرورية نحو تحقيق الدولة الفلسطينية، اعتبره آخرون محاولة لتجاوز المؤسسات الديمقراطية المنتخبة، وفرض رؤية سياسية معينة. كما أثار المرسوم مخاوف بشأن شروط الترشح للانتخابات، والتي قد تستبعد فصائل معارضة مثل حماس والجهاد الإسلامي، بناءً على التزامها بالبرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية ومبادرة السلام العربية.

مهمة قومية أم تجاوزاً للسلطة؟

بعد صدور المرسوم، صرح رئيس لجنة صياغة الدستور، محمد قاسم، بأن تشكيل اللجنة يمثل “مهمة قومية لتجسيد الدولة الفلسطينية المستقلة”. وأضاف أن الدستور الجديد سيكفل حقوق المواطنين ويضمن التداول السلمي للسلطة، مشيراً إلى أن السلطة الفلسطينية كانت يفترض أن تكون مرحلة انتقالية انتهت عام 1999. تهدف اللجنة إلى صياغة مشروع دستور جديد يمهد لمرحلة الدولة الدائمة.

في نوفمبر/تشرين الثاني، أعلنت اللجنة أنها أحالت المواد الدستورية المقرة إلى خبراء ومختصين لإجراء التدقيق والصياغة التشريعية النهائية، تمهيداً للوصول إلى مسودة متكاملة وتسليمها للرئيس. لكن هذه الخطوات لم تمنع تصاعد الانتقادات والطعون القانونية.

الطعن الدستوري واعتقال الناشطين

في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول، تقدمت “مجموعة محامون من أجل العدالة” بطعن لدى المحكمة الدستورية العليا في رام الله ضد المرسوم الرئاسي. تمثل المجموعة الناشطين جمال سليمان (الصابر) ومزيد سقف الحيط. استند الطعن إلى مبادئ قانونية ووطنية، مؤكداً أن “القانون الأساسي الفلسطيني يبقى نافذاً وملزماً إلى حين صياغة دستور جديد عبر آلية وطنية ديمقراطية وتوافقية، وليس من خلال مرسوم رئاسي منفرد”. كما أكد الطعن أن الدستور ملك للشعب الفلسطيني، ولا يجوز مصادرته أو هندسته بشكل منفرد.

المثير للقلق، أنه بعد أيام من تقديم الطعن، أعلنت المجموعة اعتقال الناشط السياسي مزيد سقف الحيط من قبل جهاز المخابرات الفلسطيني. ولا يزال سقف الحيط معتقلاً حتى اليوم، حيث يواجه تهماً مختلفة، بما في ذلك ذم وقدح السلطة ومنشورات على شبكات التواصل الاجتماعي، على الرغم من صدور قرار بالإفراج عنه. يثير هذا الاعتقال تساؤلات حول حرية التعبير وحق النشطاء في انتقاد السياسات الرسمية.

مرتكزات الطعن ومستقبل الدستور الفلسطيني

يرتكز الطعن المقدم للمحكمة الدستورية على أن صياغة الدستور تتطلب وجود مجلس تشريعي منتخب يمثل الشعب، وأن تغيير الدستور بمرسوم رئاسي أمر غير قانوني. كما يشدد الطعن على ضرورة إجراء استفتاء شعبي على مواد الدستور الجديد. يؤكد المحامون على أن الانتقال من السلطة إلى الدولة يجب أن يتم بعد انتخابات تشريعية شاملة، وأن الدستور يجب أن يعكس إرادة الشعب الفلسطيني بجميع أطيافه.

يرى المحلل السياسي باسم التميمي أن قرار الرئيس بتشكيل اللجنة يندرج ضمن التوجه العام نحو بناء الدولة وتكريس مؤسساتها. ويشير إلى موجة الاعترافات الدولية بفلسطين، والتحرك داخل المؤسسات الفلسطينية لتجاوز مرحلة اتفاقية أوسلو. ويؤكد أن الدستور الفلسطيني يمثل علامة من علامات السيادة، إلى جانب المؤسسات الأخرى التي تم تكريسها على مدار العقود الماضية.

هل يمرر المستوى السياسي الدستور المؤقت؟

في المقابل، يرى سليمان بشارات، مدير مركز يبوس للاستشارات والدراسات الإستراتيجية، أن القرار النهائي بشأن إعلان الدستور أو تجميده يقع على عاتق المستوى السياسي، نظراً للتركيبة الحالية للنظام السياسي الفلسطيني وغياب المجلس التشريعي. ويضيف أن هذا القرار مرتبط برؤية سياسية أوسع، وبالبيئة السياسية الدولية والإقليمية. ويشير إلى أن البيئة السياسية الحالية تشجع الرئيس على المضي قدماً في إصدار الدستور، لكن أي تغيير في هذه البيئة قد يؤثر على المشروع.

في الختام، يظل مستقبل الدستور الفلسطيني معلقاً بين المسار القانوني والمسار السياسي. يتطلب إنجاز هذا المشروع الوطني الحساس حواراً وطنياً شاملاً، يضمن مشاركة جميع الفصائل والقوى السياسية، واحترام حقوق وحريات المواطنين، والالتزام بالآليات الديمقراطية. يبقى السؤال المطروح: هل ستتمكن القيادة الفلسطينية من تجاوز التحديات السياسية والقانونية، وإنجاز دستور يعكس إرادة الشعب الفلسطيني ويؤسس لدولة مستقلة ذات سيادة؟

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version