في ظل تصاعد التوترات السياسية والاقتصادية، شهدت الأراضي الفلسطينية احتجاجات واسعة النطاق، خاصة في مدينتي رام الله ونابلس، اعتراضًا على قرار وقف صرف مخصصات الأسرى والشهداء. يأتي هذا القرار من قبل السلطة الفلسطينية، وتحديدًا بعد إحالة ملفات المستفيدين إلى مؤسسة “تمكين”، كجزء من برنامج إصلاحي شامل تتبناه القيادة الفلسطينية. وقد أثار هذا الإجراء موجة غضب عارمة، وتصاعدت الدعوات للمطالبة بإعادة النظر فيه، مع التأكيد على الالتزام الوطني والأخلاقي تجاه هذه الفئة الهامة من المجتمع.
خلفية الأزمة وتصاعد الاحتجاجات
بدأت شرارة الأزمة بعد أن دعت مؤسسة “تمكين” المستفيدين من برامج الحماية الاجتماعية والمساعدات النقدية إلى البنوك لاستلام مستحقاتهم، لكن عائلات الأسرى والشهداء لم تجد أي مبالغ مالية في انتظارهم. هذا الأمر فجر غضبًا شعبيًا عارمًا، وتجسد في اعتصامات ووقفات احتجاجية في مختلف المحافظات الفلسطينية. في نابلس، أغلق أهالي الأسرى شوارع رئيسية، بينما قام محتجون بإشعال الإطارات في مداخل المخيمات تعبيرًا عن استيائهم.
الاحتجاجات لم تقتصر على المطالبة بالمال فحسب، بل امتدت لتشمل الضغط على الصليب الأحمر الدولي لزيارة الأسرى في سجون الاحتلال، والمطالبة بإعادة جثامين الشهداء المحتجزة لدى إسرائيل. هذه المطالب تعكس عمق الارتباط العاطفي والوطني بقضية الأسرى والشهداء في الوجدان الفلسطيني.
بيان الرئيس عباس وتوضيح الرؤية الإصلاحية
في محاولة لتهدئة الأوضاع وتوضيح دوافع القرار، أصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس بيانًا رسميًا أكد فيه على التزام السلطة الفلسطينية المطلق برعاية الأسرى والشهداء وعائلاتهم. وأوضح أن القرار بقانون رقم (4) لسنة 2025، والذي ينص على إحالة مخصصات الأسرى إلى مؤسسة “تمكين”، يهدف إلى توحيد وتنظيم منظومة الحماية والرعاية الاجتماعية، وضمان العدالة والشفافية والاستدامة في تقديم المخصصات.
وأشار الرئيس عباس إلى أن هذا الإجراء يندرج ضمن رؤية إصلاحية شاملة تهدف إلى تطوير وتحديث المؤسسات الفلسطينية، وترسيخ سيادة القانون، وتعزيز مبادئ الحكم الرشيد. وأكد أن مؤسسة “تمكين” هي مؤسسة وطنية رسمية تعمل على تنفيذ السياسات والقرارات الصادرة وفقًا لأحكام القانون، ولا تمتلك أي صلاحيات سياسية أو تشريعية.
دور مؤسسة “تمكين” في برنامج الإصلاح
تعتبر مؤسسة “تمكين” حجر الزاوية في برنامج الإصلاح الذي تتبناه القيادة الفلسطينية. وتهدف المؤسسة إلى توحيد كافة برامج الحماية والرعاية الاجتماعية تحت مظلة واحدة، مما يضمن توزيعًا أكثر عدالة وشفافية للموارد المتاحة. كما تسعى المؤسسة إلى تطوير آليات جديدة لتقديم المساعدة، تعتمد على معايير موضوعية ومهنية، وتحترم كرامة المستفيدين.
الغضب من “تمكين” والاتهامات الموجهة لها
على الرغم من توضيحات الرئيس عباس، إلا أن الغضب من مؤسسة “تمكين” استمر في التصاعد. اتهمت العائلات المعتصمة المؤسسة بالتعامل مع ملفهم بشكل غير لائق، وبالتقليل من شأن تضحيات أبنائهم. كما انتقدوا اعتماد المؤسسة على “استمارات المسح الاجتماعي” لتقييم احتياجات المستفيدين، معتبرين أن هذا الإجراء يمثل إهانة لتاريخهم النضالي.
رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين، رائد أبو الحمص، انتقد أيضًا سياسات “تمكين”، داعيًا إلى استبعادها عن كافة تفاصيل صرف مخصصات الأسرى وذوي الشهداء والجرحى. وأكد أن هذه الفئات ليست مجرد “حالات اجتماعية”، بل هي طليعة الحركة الوطنية الفلسطينية، وأن حقوقهم واجب وطني وقانوني غير قابل للمساومة.
الضغوطات الإسرائيلية والأمريكية وتأثيرها على الأزمة
لا يمكن فهم أزمة مخصصات الأسرى والشهداء دون الأخذ في الاعتبار الضغوطات الإسرائيلية والأمريكية التي تمارس على السلطة الفلسطينية. فقد اتهمت إسرائيل والسلطة الفلسطينية بـ “مكافأة الإرهاب” بسبب صرفها مخصصات لعائلات الأسرى الفلسطينيين الذين نفذوا عمليات ضد إسرائيل.
وفي عام 2018، أصدر الكونغرس الأمريكي قانونًا يمنع تقديم المساعدات الاقتصادية للسلطة الفلسطينية طالما استمرت في صرف هذه المخصصات. وقد أدت هذه الضغوطات إلى تدهور الأوضاع المالية للسلطة الفلسطينية، وزادت من صعوبة صرف الرواتب والمخصصات.
المضي قدمًا في الإصلاحات والتحديات المستقبلية
تعهد الرئيس عباس بالمضي قدمًا في تنفيذ برنامج الإصلاح الوطني الشامل، مؤكدًا على أهمية تطوير وتحديث المنظومة القانونية والمؤسسية لدولة فلسطين. وأشار إلى أن البرنامج الإصلاحي يشمل مراجعة وتحديث القوانين الناظمة للحياة السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية، وتعزيز مبادئ الحكم الرشيد والشفافية والمساءلة.
ومع ذلك، يواجه برنامج الإصلاح العديد من التحديات، بما في ذلك المقاومة الداخلية من الفئات التي ترى أن مصالحها مهددة، والضغوطات الخارجية من إسرائيل والولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الأوضاع الاقتصادية الصعبة في الأراضي الفلسطينية، والاحتلال الإسرائيلي المستمر، يشكلان عقبات كبيرة أمام تحقيق الإصلاح المنشود.
في الختام، تمثل أزمة مخصصات الأسرى والشهداء تحديًا كبيرًا للسلطة الفلسطينية، وتتطلب معالجة شاملة تأخذ في الاعتبار الجوانب الإنسانية والوطنية والسياسية. من الضروري إيجاد حلول مستدامة تضمن حقوق هذه الفئة الهامة من المجتمع، وتحافظ على كرامتها، وتدعم صمودها في وجه الاحتلال. ويتطلب ذلك حوارًا وطنيًا بناءً، وتعاونًا دوليًا فعالًا، والتزامًا حقيقيًا بالإصلاح والتغيير.


