حين تعرّض لويد موزامبا لإصابة خطيرة إثر حادث سير على طريق هراري–بولاوايو عام 2023، كان بحاجة ماسة لنقل دم لإنقاذ حياته.
ورغم إدخاله مستشفى “مبيلو” المركزي، أكبر منشأة صحية حكومية في منطقة ماتابيليلاند بزيمبابوي، لم يكن لدى الأطباء كمية كافية من الدم بسبب نقص الإمدادات.
في ظل اليأس، لم تجد عائلته خيارًا سوى اللجوء إلى مستشفى خاص قريب باع لهم 3 وحدات من الدم، بسعر 250 دولارًا للوحدة الواحدة. وبما أن موزامبا يتقاضى راتبًا شهريًا يبلغ 270 دولارًا ولا يملك مدخرات، فلم يكن باستطاعته دفع التكلفة.
ومع اقتراب الوقت من النفاد، لجأت العائلة إلى خطة طارئة. فباع عمه بقرة مقابل 300 دولار، وطلب من الأقارب المساهمة في تغطية المبلغ المتبقي.
بعد عامين على الحادثة، قال موزامبا -الذي تعافى الآن- إن التجربة تركت أثرًا نفسيًا عميقًا لديه، إذ بات يقلق من حالات الطوارئ التي قد تتطلب نقل دم منقذ للحياة.
يقول موزامبا البالغ من العمر 35 عامًا ويعمل في متجر للأدوات في بولاوايو “ثلاث وحدات قد تبدو قليلة، لكن هناك من يحتاج إلى أكثر. وبسبب التكاليف يصبح الأمر مهددًا للحياة”،
وأضاف “لم أتمكن من الحصول على الدم دون دفع أو ترتيب خطة دفع، كانت تجربة مؤلمة بالنسبة لزيمبابوي عاديّ مثلي”.
ليس موزامبا حالة فريدة
في ظل الأزمات المالية المستمرة وارتفاع تكاليف المعيشة ومستويات الفقر العالية، يواجه الزيمبابويون المحتاجون للرعاية تأخيرات خطيرة قد تودي بحياتهم بسبب العوائق المالية، وهذا يشمل نقص الدم رغم توفره مجانًا في المؤسسات الصحية الحكومية.
تانكا مويو، أم لطفلين من العاصمة هراري، خاضت تجربة مشابهة خلال ولادة طفلها الثاني، إذ عانت من نزيف ما بعد الولادة، واضطرت إلى الحصول على 4 وحدات من الدم.
تقول مويو (38 عامًا)، التي تعمل بائعة متجولة وزوجها يعمل حارس أمن، إنهما بالكاد جمعا المال لتغطية تكاليف الولادة، وجاءت الحاجة المفاجئة لنقل الدم كتكلفة غير متوقعة وصادمة.
وأضافت “ركض زوجي هنا وهناك واقترض المال من شركة تمويل صغيرة. الفوائد مرتفعة والشروط صارمة، لكنه اضطر للتصرف بسرعة. وفي المستشفى، أصروا على أن الدم مجاني، لكنه لم يكن متوفرًا”.
يقول طبيب النساء والتوليد بلاكسيدس شاروما من بولاوايو إن “نزيف ما بعد الولادة هو السبب الرئيسي لوفيات الأمهات”.
ويشير خبراء الصحة إلى أن انتشار هذه الحالات يتطلب من المستشفيات الاحتفاظ بإمدادات دائمة للتعامل مع طوارئ النزيف الحاد أثناء الولادة.
ووفقًا لـ”مجموعة العمل المجتمعية من أجل الصحة”، وهي شبكة منظمات مدنية صحية في زيمبابوي، فإن البلاد تواجه طلبًا مرتفعًا على وحدات الدم، وأكثر من يتأثر بذلك هن النساء الحوامل.
يقول إيتاي روسيك، المدير التنفيذي للمجموعة “نتوقع نحو نصف مليون حالة حمل في زيمبابوي، وبعضها يشهد فقدانًا كبيرًا للدم، مما يتطلب نقل ما لا يقل عن ثلاث وحدات”.
ويضيف أن “وفيات الأمهات في زيمبابوي لا تزال مرتفعة بشكل غير مقبول”، موضحًا أن “نقل الدم في الوقت المناسب يمنع هذه الوفيات، التي تبلغ 212 امرأة لكل 100 ألف ولادة حية”.
“الدم المجاني للجميع”
بوجه عام، هناك نوعان رئيسيان من نقل الدم: الذاتي ومن الغير. الذاتي هو أن يتبرع الشخص لنفسه بدمه لاستخدامه لاحقًا. أما من الغير، وهو الأكثر شيوعًا في زيمبابوي، فهو نقل دم من متبرع إلى شخص آخر يطابق فصيلة دمه.
![A World Blood Donor Day awareness street march in Zimbabwe [Courtesy of NBSZ]](https://saudiakhbar.com/wp-content/uploads/2025/07/%D9%8A%D8%A8%D9%825-1753443691.jpg)
تشرف “خدمة الدم الوطنية بزيمبابوي” على التبرع بالدم وتوزيعه في البلاد. وهي جهة مستقلة غير ربحية، لكنها مُلزَمة قانونيًا بجمع ومعالجة وتوزيع الدم داخل زيمبابوي.
ورغم أن وزارة الصحة ورعاية الطفل ممثلة دائمًا في مجلس إدارتها، فإن الخدمة تعمل بشكل مستقل عن المستشفيات والمؤسسات الصحية الحكومية، وهي لا توجد في كل منشأة، بل توزع من خلال 5 مراكز إقليمية: هراري، بولاوايو، جويرو، ماسفينغو وموتاري.
ولطالما كان المرضى في زيمبابوي يدفعون مقابل الدم، لكن الحكومة خفّضت تلك التكاليف تدريجيًا، من 150 دولارًا للوحدة عام 2016 وما قبله، إلى 50 دولارًا في 2018.
ثم اتخذت الحكومة خطوة أخرى في يوليو/تموز من ذلك العام بإقرار الدم المجاني في جميع المؤسسات الصحية الحكومية.
وقال وزير الصحة آنذاك الدكتور ديفيد باريرينياتوا خلال احتفالات اليوم العالمي للتبرع بالدم في يونيو/حزيران 2018 إن “مبادرة الدم المجاني للجميع ماضية قدمًا كما هو مخطط لها، وتم بالفعل وضع آليات لتمويلها، واعتبارًا من الأول من يوليو/تموز (2018) سيُوفَّر الدم مجانًا”.
لكن رغم هذه السياسة، فإن المستشفيات لا تزال تعاني من نقص الإمدادات.
في مايو/أيار الماضي، شهدت المستشفيات الحكومية نقصًا حادًا في الدم، وهي أزمة هددت حياة الآلاف، بحسب بيان لوزارة الصحة ورعاية الطفل.
وقد تواصلت الجزيرة مع الناطق الرسمي باسم الوزارة، دونالد موجيري، للاستفسار عن النقص وسير تنفيذ سياسة الدم المجاني، لكنه لم يرد.
في المقابل، قالت خدمة الدم الوطنية بزيمبابوي إن نقص الدم في مايو/أيار نجم عن تحديات تشغيلية ومنهجية أعاقت قدرتها على تنفيذ حملات التبرع المعتادة.
قالت فيكي مابونغا، مسؤولة الاتصال بالخدمة، للجزيرة “دون تمويل في الوقت المناسب، واجهنا صعوبات في تعبئة فرق التوعية وتأمين الوقود وشراء المستلزمات الأساسية”.
وأضافت “وزادت الأزمة سوءًا بسبب انخفاض موسمي في التبرعات، خصوصًا من الشباب الذين يشكلون أكثر من 70% من قاعدة المتبرعين لدينا”.
وغالبًا ما يضطر المرضى للحصول على الدم من مستشفيات خاصة، حيث يتحملون التكاليف كاملة.
وفي حالات كثيرة، يُنقل المريض فعليًا إلى المنشأة الخاصة لتلقي الدم، وفي حالات أخرى، يرسل المستشفى الخاص وحدات الدم إلى المريض في المستشفى الحكومي بعد سداد التكلفة.
تبرعات الدم الحاسمة
تسعى منظمة الصحة العالمية إلى ضمان أن تحصل جميع الدول التي تجري عمليات نقل الدم على إمداداتها من خلال متبرعين طوعيين.
وقالت خدمة الدم الوطنية بزيمبابوي للجزيرة إن الحفاظ على إمدادات مستدامة من الدم في البلاد يتطلب ترسيخ ثقافة التبرع المنتظم والطوعي، خصوصًا بين الشباب والمجتمعات المهمشة.
وتعتمد الخدمة نموذجًا للتوعية المتنقلة، حيث تنقل حملات التبرع بالدم مباشرة إلى المدارس والمجتمعات.
ولمزيد من إشراك الشباب، ذكرت مابونغا أنهم أنشؤوا ناديًا “يشجع الشباب على الالتزام بالتبرع بالدم 25 مرة على الأقل طوال حياتهم”.
وأضافت “ندمج أيضًا التوعية بأهمية التبرع بالدم في البرامج المدرسية، ونتعاون مع مؤسسات التعليم العالي لضمان الاستمرارية بعد المرحلة الثانوية”.
إيفي كومالو، البالغة من العمر 32 عامًا، من بين الذين بدؤوا التبرع بالدم منذ أيام الدراسة الثانوية. لكنها تقول إن عدم وجود مراكز للتبرع بالقرب منها حاليًا يحد من قدرتها على التبرع وهي راشدة.
تقول كومالو “كطالبة في المدرسة، بدأت التبرع بدافع من ضغط الأقران، لكنني وجدت الأمر مثيرًا للاهتمام. وحين كبرت، اتخذت القرار شخصيًا بدافع الحب لإنقاذ الأرواح ومساعدة المحتاجين”.
لكنها، بعد انتقالها من بولاوايو إلى هوانغي، تضيف أن التبرع بالدم أصبح مكلفًا، إذ يقع أقرب مركز في مدينة فيكتوريا فولز، على بعد أكثر من 100 كيلومتر.
تقول خدمة الدم الوطنية بزيمبابوي إنها تنظم حملات متنقلة للتبرع بالدم في مختلف أنحاء البلاد، وتقدم كذلك حوافز للمتبرعين.
قالت مابونغا “المتبرعون المنتظمون الذين يستوفون معايير معينة، مثل إجراء 10 تبرعات على الأقل، وأحدثها خلال الأشهر الـ12 الماضية، يحق لهم الحصول مجانًا على الدم ومنتجاته لأنفسهم ولأفراد أسرهم المباشرين عند الحاجة الطبية”.
لكن بالنسبة للمتبرعين المخلصين أمثال كومالو، يشكل الوصول إلى مركز بعيد عائقًا فعليًا.
وتضيف “في مثل هذه الظروف، لم يعد الأمر تبرعًا مجانيًا، فقد أنفقت المال للوصول إلى هناك. وفي النهاية، يفضل معظمنا البقاء في المنزل رغم شغفنا بالتبرع”.
ويقول روسيك، المدير التنفيذي لمجموعة العمل المجتمعية من أجل الصحة، إن على خدمة الدم الوطنية بزيمبابوي ووزارة الصحة ورعاية الطفل الإسراع في وضع آليات مبتكرة ومستدامة لزيادة عدد المتبرعين المؤهلين طبيًا.
ويضيف “على الحكومة أن تستفيد من صندوق الضريبة الصحية، وهو ضريبة بنسبة 5% على مكالمات الهاتف والبيانات، وقد تم إنشاؤه خصيصًا لخفض تكلفة الدم ومساعدة المؤسسات الصحية العامة على استبدال الأجهزة المتهالكة ومعالجة نقص الأدوية المزمن. ويجب تخصيص هذا المال بوضوح واستخدامه للغرض المخصص له بطريقة أكثر شفافية ومسؤولية”.
وعود ونقص
تقول السلطات إن إمدادات الدم الوطنية في زيمبابوي حققت تقدمًا جيدًا حتى منتصف عام 2025، إذ جمعت خدمة الدم الوطنية بزيمبابوي أكثر من 73% من هدفها نصف السنوي (الهدف السنوي لعام 2025 هو 97 ألفا و500 وحدة).
وتؤكد خدمة الدم أن وزارة الصحة ورعاية الطفل تلعب دورًا محوريًا في دعم تكلفة الدم والإشراف عليها في القطاع الصحي الحكومي.
وقالت مابونغا “منذ عام 2018، أصبحت سياسة الدم المجاني ممكنة بفضل نظام القسائم الممول من الحكومة، الذي يغطي التكلفة الكاملة البالغة 250 دولارًا لكل وحدة، ما يتيح للمتلقي الحصول عليها دون مقابل في المستشفيات الحكومية”.
وتؤكد خدمة الدم الوطنية بزيمبابوي أنها تعمل وفق مبدأ استرداد التكاليف، موضحة أن سلسلة جمع ومعالجة وتوزيع وحدة الدم بالكامل تبلغ تكلفتها 245 دولارًا. وتفرض المؤسسة مبلغ 250 دولارًا، بما يحقق هامش ربح قدره 5 دولارات للوحدة.
لكن الزيمبابويين يقولون إن بعض المؤسسات الخاصة تبيع الوحدة بسعر يصل إلى 500 دولار، مما أثار جدلاً واسعًا على وسائل التواصل الاجتماعي، نظرًا لصعوبة الوصول إليها بالنسبة لكثيرين.
وتوضح مابونغا “خدمة الدم الوطنية بزيمبابوي لا تملك صلاحية تنظيم الأسعار التي تفرضها تلك المؤسسات على المرضى”، مؤكدة أن الدم يُتبرع به مجانًا، لكن رحلة انتقاله من “وريد إلى وريد” عملية معقدة ومكلفة.
ومع ذلك، يرى بعض المراقبين أن بالإمكان خفض تكلفة نقل الدم.
وقال الناشط في العدالة الاجتماعية الاقتصادية، كارلتون نتيني، من بولاوايو “بمزيد من التدقيق، يمكن أن تقل تكلفة سلسلة نقل الدم عن 150 دولارًا من خلال توظيف الموارد المتاحة، والاستفادة من جهات مانحة مثل الشركات، وإلزام الحكومة بتمويل العملية كاملة”.
ويضيف أن مسألة توفير الدم المجاني في المستشفيات الحكومية فكرة نبيلة، لكنها دون تنفيذ فعلي تبقى مجرد أمل زائف ولا يستفيد منها سوى القليل من المحظوظين، إذ إن النقص هو السائد.
وأضاف نتيني “في الواقع، أي مبلغ يزيد عن 50 دولارًا للوحدة يُعد مرتفعًا جدًا للزيمبابويين، ويشكل حكمًا بالإعدام”.
وفي الأثناء، تضيف تكاليف العلاج الأخرى إلى معاناة المرضى النفسية والمادية.
كان موزامبا محظوظًا لأن عائلته لم تطالب باسترداد المبلغ الذي قدمته مقابل الدم، لكن مويو وزوجها واجها صعوبة في تسديد قرض بقيمة ألف دولار، ارتفع إلى 1400 دولار بسبب الفوائد.
تقول مويو “استنزفني الأمر نفسيًا أكثر من الألم الجسدي، إذ تساءلت: من أين سأحصل على هذا المال في ظل هذه الظروف الاقتصادية؟”.
وتختتم “على الحكومة أن تفي بوعودها، فالمسألة لا تتعلق بكونه مجانيًا فقط، بل يجب أن يكون متاحًا للجميع”.