تشهد الضفة الغربية موجة جديدة من الاستيطان الإسرائيلي تحت اسم “فتيات التلال”، وهي مجموعات نسائية إسرائيلية تروج لما يوصف بـ”الاستيطان الناعم”.

وتختلف هذه الموجة عن الاستيطان التقليدي في مظهرها الخارجي، حيث تعتمد على فتيات يتركن التعليم والحياة المدنية ليعشن في خيام ومساكن بدائية على قمم الجبال، بدلا من الاعتماد على الأسلحة والدوريات العسكرية.

وبرزت هذه الظاهرة كامتداد طبيعي لحركة “فتية التلال” التي أسسها مستوطنون متطرفون عام 1998 بتشجيع مباشر من وزير الأمن الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون.

غير أن النسخة النسائية تقدم الاستيطان بوجه مغاير يروج لهذا النمط المصطنع باعتباره تضحية من أجل “الأرض الموعودة”، بينما يواصل في جوهره سلب الأرض من الفلسطينيين وترسيخ السيطرة الإسرائيلية على مساحات واسعة من الضفة الغربية.

تتبنى “فتيات التلال” عقيدة أيديولوجية تهدف للوصول إلى ما يسمينه “إسرائيل الكاملة” أو “إسرائيل الكبرى”، التي لا تقتصر جغرافيتها على حدود فلسطين التاريخية، بل تمتد لتشمل مصر والأردن ولبنان وسوريا والعراق وشبه الجزيرة العربية.

وتكشف شهادات المستوطنات أنفسهن عن هذه الأهداف الواسعة، حيث أوضحت إحداهن أن المشروع يشمل “كل هذه المنطقة” في إشارة واضحة للمنطقة العربية برمتها.

ووفق هذه الرؤية الأيديولوجية، تعتمد هذه المجموعات على أسلوب حياة يقوم على الرعي والتنقل والعزلة عن المجتمع، مع قطيعة مع مظاهر التمدن، كوسيلة إستراتيجية لترسيخ السيطرة على أراض فلسطينية خاصة وتحويلها إلى بؤر استيطانية جديدة.

ويهدف هذا النهج المدروس لتحويل نقاط رعوية بدائية إلى مستوطنات إسرائيلية متكاملة، بغض النظر عن قانونيتها أو انتهاكها للقانون الدولي.

وتبرز بؤرتا “ماعوز إستير” و”أور أهوفيا” شمال شرق رام الله كأوضح النماذج العملية لنشاط “فتيات التلال” وآلية عملهن الممنهجة.

توسع استثنائي

فقد أقيمت “ماعوز إستير” قبل نحو 17 عاماً كنقطة استيطانية شبابية صغيرة، لكنها تحولت عبر مراحل مدروسة إلى ما يشبه مستوطنة متكاملة تسكنها اليوم 17 عائلة ويعيش فيها أكثر من 50 طفلاً.

وشهدت هذه البؤرة توسعا استثنائيا خلال أسابيع قليلة، لتصبح مساحتها ضعف مساحة مستوطنة “كوخاف هشاحر” المجاورة التي تبلغ نحو 950 دونماً.

ويأتي هذا التوسع المتسارع بعد 6 سنوات فقط على عودة مجموعات من المستوطنات الإسرائيليات لإحياء تلك البؤرة، في حين تشهد البؤرة حاليا أعمال بناء منازل جديدة للتحضير لاستقبال مزيد من السكان والعائلات.

في المقابل، أسست “فتيات التلال” بؤرة “أور أهوفيا” عام 2023 على تلال قريبة من مستوطنة عوفرا غير القانونية، في خطوة تكشف عن إستراتيجية التوسع المنظم.

وتسعى هذه البؤر المترابطة لتحويل المنطقة بأكملها إلى تجمع استيطاني كبير يستوعب آلاف العائلات في المستقبل، من خلال ربط أكثر من 20 بؤرة بمستوطنة عوفرا الأم، مما يخلق شبكة استيطانية متكاملة.

دعاية رقمية

وتدرك “فتيات التلال” أهمية العصر الرقمي، فتعتمد بشكل كبير على منصات التواصل الاجتماعي لاستقطاب المزيد من الفتيات والعائلات للسكن في البؤر وتوسيعها.

وتنشر حسابات البؤر الاستيطانية مقاطع فيديو مدروسة تروج “لإنجازاتها” وتشجع على الاستيطان، مع استخدام شعارات جذابة مثل “نصنع النصر” و”بعد 5 سنوات تستطيعون أنتم أيضا أن تؤسسوا مستوطنة”.

وتتبنى هذه المجموعات إستراتيجية إعلامية ذكية لتحسين صورة الاستيطان، حيث نشرت محتوى يدّعي كسر الصور النمطية، وتزعم فيه المستوطنات أنهن لا يقتلن العرب ولا يضربن أصحاب الأرض، بل يطبخن وينشرن الغسيل كأي نساء عاديات.

ويحاول هذا الخطاب المحسوب تصوير الاستيطان كمشروع عائلي طبيعي وبيئة اجتماعية قابلة للنمو، بعيدا عن صور العنف والاعتداءات المرتبطة تاريخيا بالمستوطنين، في محاولة لإضفاء الشرعية على مشاريعهن الاستيطانية.

شرعنة قانونية

وتحظى هذه البؤر بدعم حكومي وأمني واضح وشامل، تجلى بشكل رسمي في زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية لمستوطنة “عوفرا” المجاورة لبؤرة “أور أهوفيا” للاحتفال بمرور 50 عاما على إقامتها.

وأكد نتنياهو خلال هذه الزيارة الرسمية على ما وصفه بـ”الجذور التاريخية” للمستوطنات في المنطقة، مما يعطي غطاءً سياسياً عالي المستوى لهذه الأنشطة الاستيطانية.

وعلى المستوى التشريعي، تسعى حكومة الاحتلال جاهدة لتوفير غطاء قانوني شامل للبؤر الاستيطانية عبر الكنيست، حيث أقرت الهيئة العامة بالقراءة التمهيدية مشروع قانون يهدف لإلغاء ما يسمى “التمييز” والسماح لليهود بشراء الأراضي في الضفة الغربية بحرية تامة.

نص المشروع

وينص هذا المشروع الإستراتيجي على حماية عمليات الشراء حتى في حال أي اتفاقيات سياسية مستقبلية، مما يعني عمليا ترسيخ الاستيطان كأمر واقع لا رجعة فيه.

وعلى الصعيد اللوجستي، تزود جميع البؤر بالماء والكهرباء وشبكة طرق خاصة، إضافة لتأمين الحماية العسكرية اللازمة من قبل الجيش الإسرائيلي والإدارة المدنية، وفق ما تؤكده منظمات حقوقية إسرائيلية.

ورغم محاولات الشرطة الإسرائيلية إظهار التزامها بالقانون من خلال تفكيك بعض البؤر أمام الكاميرات، وصف نشطاء حقوقيون هذه العمليات بأنها “مسرحية متفق عليها” و”لعبة مدروسة لذر الرماد في العيون”.

ويوضح مدير البحث الميداني في منظمة “بتسيلم” الحقوقية أن معظم البؤر مدعومة مباشرة من قبل الدولة والجيش، وأن عمليات الهدم تتم بشكل شكلي حيث تعود الفتيات لإعادة البناء فور مغادرة قوات الشرطة الموقع.

وفي المقابل، أدانت وزارة الخارجية الفلسطينية والأمم المتحدة هذه الممارسات بقوة، مؤكدة أن جميع المستوطنات تتناقض مع القانون الدولي وتقوض بشكل منهجي إمكانية إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version