تقول العبارة الشهيرة “الضربة التي لا تقتلني تقويني” وإذا كانت تستخدم في عالم البشر مجازيا، للدلالة على أن التحديات التي لا تؤدي إلى الهلاك تكسب الفرد قوة وصلابة، فإنها في عالم البكتريا تتجاوز الحالة المجازية، لتصف آلية واقعية وعملية، تتحول بموجبها الضربات التي كانت تستهدف قتلها إلى أدوات تكسبها مزيدا من القوة والصلابة، وفقا لدراسة حديثة نشرت في دورية “نيوكليك أسيدز ريسيرش”.
ومنذ مليارات السنين، تخوض البكتيريا والفيروسات معركة مستمرة، فالفيروسات تهاجم البكتيريا باستمرار، والبكتيريا تطور أساليب للدفاع عن نفسها، وأنتج هذا الصراع الطويل آلية دفاعية مذهلة داخل البكتيريا.
آلية دفاعية مبتكرة
تبدأ قصة هذه الآلية الدفاعية بتعرض البكتيريا لهجمات متواصلة من فيروسات تُعرف بـ”العاثيات”، وبعض هذه العاثيات يتبع خطة مختلفة، فهي لا تدمر الخلية فورا، بل تعيش داخلها بهدوء، انتظارا للظروف المناسبة للهجوم.
ولكن في بعض الحالات، تفقد هذه الفيروسات القدرة على الهجوم تماما وتتحول إلى ما يسميه العلماء “العاثيات الخفية”، وهي بقايا فيروسية لا تموت ولا تعمل، لكنها تبقى. والجديد الذي اكتشفه العلماء في الدراسة أنه مع مرور الزمن، توارثت الأجيال البكتيرية هذا الفيروس الصامت داخل جيناتها، دون أن يسبب أي ضرر.
كيف تعمل الآلية الدفاعية؟
ويصف الباحثون في دراستهم هذه الآلية، والتي يبدأ تفعيلها عندما يقترب فيروس جديد محاولا الهبوط على سطح البكتيريا لبداية الهجوم. فعند أول محاولة لمس تنطلق إشارة إنذار داخل الخلية، حيث يدخل إلى المشهد إنزيم يختص بإعادة التركيب “بنكيو”، والذي يشبه مهندسا جينيا طارئا يتدخل للإنقاذ.
وبهذه الحركة، تُفتح صفحة جينية كانت خاملة، وتُفعل البكتيريا تعليمات جديدة لم تكن تُقرأ سابقا، والنتيجة تكون تصنيع بروتينات هجينة، تكون مزيجا من جينات البكتيريا وبقايا الجينات الفيروسية القديمة. وتتجه هذه البروتينات الهجينة إلى سطح الخلية، وتعيد تشكيل مستقبلات البكتيريا.
نتائج التجارب العملية
واختبر الباحثون هذه الآلية عبر زيادة إنتاج البروتينات الهجينة في بكتيريا “إيكولاي” ثم تعريضها للفيروسات وتركها طوال الليل. وبعد ذلك قاسوا عكارة المحلول، فكلما زادت العكارة قل وجود الفيروسات.
ويقول البروفيسور توماس وود أستاذ الهندسة الكيميائية بجامعة بنسلفانيا، والباحث الرئيسي بالدراسة، إنه عندما نزيد إنتاج البروتين الدفاعي ننجح في منع الفيروس من الالتصاق بالبكتيريا في البداية، لكن بعد 8 دورات تجريبية، ينجح الفيروس في تطوير بروتينات هبوط جديدة تمكنه من تجاوز الدفاع.
وأكد وود أن هذه النتائج تحسن فهم آليات الدفاع الطبيعية لدى البكتيريا، مما يمكن أن يُوظف مع البكتريا النافعة التي تستخدم في صناعات مثل الجبن والزبادي، وأيضا مكافحة الأنواع الممرضة المقاومة للمضادات الحيوية.
وتشير النتائج إلى أن فهم هذه الآلية الدفاعية قد يساعد في تطوير استراتيجيات جديدة لمكافحة البكتيريا الضارة، خاصة مع تزايد مقاومتها للمضادات الحيوية. وستواصل الأبحاث دراسة هذه الظاهرة بشكل أعمق لفهم تفاصيلها وتطبيقاتها المحتملة.


