في مواسم الأعياد حول العالم، يزداد حضور مشاعر الامتنان، وتتراجع -ولو مؤقتا- إيقاعات الحياة السريعة لتفسح المجال أمام قيم العطاء والتطوع. هذا التوجه نحو الكرم ليس مجرد ظاهرة موسمية، بل هو انعكاس عميق لجزء أصيل من الطبيعة الإنسانية، مدفوعًا بعوامل نفسية واجتماعية وتطورية. هذا المقال يستكشف هذا الجانب من النفس البشرية، ويوضح كيف أن التطوع والعطاء يعززان الروابط المجتمعية ويمنحان شعورًا بالهدف والمعنى في الحياة.

لماذا يزداد التطوع في مواسم الأعياد؟

ورغم اختلاف الثقافات والتقاليد، تشير دراسات علم النفس الاجتماعي والتطوّر البشري إلى أن نزعة السخاء ليست مجرد طقس موسمي ولا سلوك عابر. تشرح أستاذة علم النفس في جامعة “بايلور” سارة شنايتكر، أن الامتنان يلعب دورا جوهريا في دفع الفرد نحو السلوك الإيجابي. “فعندما نشعر بالامتنان لما نملكه، فإن ذلك يدفعنا لفعل الخير للآخرين، سواء لمن ساعدونا من قبل أو لأشخاص جدد”. وتضيف: “هناك حلقة تصاعدية لطيفة بين الامتنان والسخاء، وغالبا ما تتعزز هذه الحلقة في مواسم الأعياد”.

هذا الشعور بالامتنان، الذي غالبًا ما يكون مرتبطًا بالتأمل في نعم الحياة خلال هذه الفترة، يحفزنا على مشاركة هذه النعم مع الآخرين. كما أن رؤية العائلة والأصدقاء يتشاركون في أعمال الخير تشجع على المشاركة وتزيد من الشعور بالانتماء.

العطاء كجزء من التطور البشري

لا يقتصر هذا السلوك على المجتمعات الغربية؛ فبحسب عالمة علم النفس التنموي في جامعة فيرجينيا إمريشا فايش، توجد مناسبات مشابهة في معظم الثقافات العالمية. توضح فايش أن الهدف المشترك لهذه المواسم هو تعزيز نزعة التعاون التي كانت شرطا أساسيا لبقاء البشر عبر التاريخ التطوري.

“اضطررنا لأن نصبح كائنات تعاونية حتى نتمكن من العيش والبقاء كنوع. ليست لدينا مخالب أو سرعة أو قدرات بدنية هائلة، لكنّ لدينا قدرة فريدة على التعاون، وهو ما يجعلنا نحقق أكثر كمجموعة مما نحققه كأفراد”. هذا يعني أن العمل التطوعي ليس مجرد فعل إنساني، بل هو استمرار لآلية بقاء متأصلة فينا.

الصراع بين الأنانية والإيثار: طبيعة الإنسان المعقدة

ومع ذلك، لا يعني هذا أن البشر دائما متعاونون أو سخيّون. ففي حالات كثيرة، تظهر دوافع الأنانية والتمسك بالمصلحة الشخصية. يشير أستاذ علم النفس في جامعة “ديوك” مايكل توماسيللو، إلى أنّ العالم البريطاني تشارلز داروين لاحظ هذا التوتر، “وهنا تكمن تعقيدات الحياة، فلدينا دوافع متضاربة تعيش معا في داخلنا”.

هذا التوتر بين المصلحة الذاتية والرغبة في مساعدة الآخرين هو جزء من التجربة الإنسانية. ولكن، يمكن تحفيز الجانب الإيثاري في داخلنا من خلال مشاعر الامتنان ومشاهدة الآخرين يمارسون العطاء.

فوائد التطوع تتجاوز مساعدة الآخرين

العطاء والعمل التطوعي لا يصبّان فقط في مصلحة المجتمع، بل يعززان الإحساس بالهدف الشخصي. توضح أستاذة علم النفس التنموي في جامعة “بريغهام يونغ” جيني نيلسون، “العطاء والتطوع والسخاء يمكن أن تعزز إحساسنا بالمعنى والغاية في الحياة. أحيانا يحدث ما نسمّيه ’نشوة المساعدة‘، وهي دفعة سريعة من الدوبامين، لكن هناك مكافأة أعمق: الإحساس بأن للأفعال الصغيرة أثرا على العالم”.

هذا الشعور بالهدف والمعنى يمكن أن يكون له تأثير إيجابي كبير على الصحة النفسية والعاطفية. كما أن التطوع يوفر فرصة لتطوير مهارات جديدة وبناء علاقات اجتماعية قوية.

قصص ملهمة من المتطوعين

خلال موسم الأعياد في الولايات المتحدة، تسجل بنوك الطعام، ومؤسسات تقديم وجبات للمسنين، وجمعيات الإغاثة، ارتفاعا ملحوظا في أعداد المتطوعين. لكن مكاسب التطوع لا ترتبط بموسم محدد.

ألفريد ديل غروسو، الذي يتطوع أسبوعيا في بنك الطعام، يقول: “أشعر بارتباط أقوى بالمجتمع ككل”. كما يخصص وقته للعمل مع نادٍ تطوعي يعمل على الحفاظ على المسارات المحلية.

ميا ثيلن، ممرضة متقاعدة، بدأت التطوع مع الصليب الأحمر الأميركي، بمجرد رغبتها في تقديم العون للمجتمع، واكتشفت فوائد إضافية: “أردت أن أفعل شيئا يُفيد المجتمع. إنه استخدام جيد للوقت؛ أن تُسهّل حياة الآخرين قليلا. أنا أتعلم الكثير: مهارات الحاسوب والتواصل. ولدي زملاء رائعون. أشعر باتصال أكبر مع جيراني”.

التواصل البسيط والعطاء

حتى الأفعال الصغيرة مثل إرسال بطاقات المعايدة يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي. تشير أستاذة علم النفس الاجتماعي في جامعة “سايمون فريزر” لارا أكنن، إلى أن هذه العادة قد تعزز العلاقات الاجتماعية. “يبدو أن الناس يترددون في التواصل مع أصدقاء قدامى، لأنهم يخشون إزعاجهم. لكن المتلقين يبلغون عن تجربة إيجابية جدا”.

وتنصح: “اكتب تلك البطاقات، أجرِ تلك المكالمات. استغل موسم الأعياد كذريعة لإعادة التواصل، وشارك ضحكة أو مشروبا دافئا”.

في الختام، يظهر أن التطوع والعطاء ليسا مجرد التزامات اجتماعية أو أعمال خيرية موسمية، بل هما استثمار في سعادتنا وصحتنا ورفاهيتنا. من خلال ممارسة العطاء، نلبي حاجة أساسية في طبيعتنا الإنسانية، ونعزز الروابط المجتمعية، ونمنح أنفسنا شعوراً بالهدف والمعنى. فلنجعل من العطاء جزءًا من حياتنا اليومية، وليس فقط في مواسم الأعياد. شارك هذه المقالة مع من تعرف، وألهمهم لتقديم يد العون!

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version