في مشهد مؤثر من فيلم “حدوتة مصرية”، يجد المخرج علي شاهين تعبيراً فنياً عن المصالحة الداخلية، تلك التي طالما سعى الإنسان إليها. هذا الشعور بالسلام الداخلي، بالوصول إلى نقطة تقبل الذات، يتردد صداه بقوة في مذكرات السير أنتوني هوبكنز الصادرة حديثاً بعنوان “لقد نجحنا يا صغيري” (We Did OK Kid)، والتي تمثل رحلة مماثلة نحو السيرة الذاتية والتصالح مع الماضي. الكتاب، الذي صدر عن دار سايمون آند شوستر، ليس مجرد سرد لأحداث حياة نجم سينمائي، بل هو دعوة للتأمل في معنى الوجود، وقيمة النضال، وأهمية تقبل الذات بكل ما فيها من عثرات ونقائص.
رحلة عبر الزمن: “لقد نجحنا يا صغيري”
“لقد نجحنا يا صغيري” هو رسالة موجهة من هوبكنز إلى ذلك الطفل الويلزي الخجول الذي يظهر في صورة قديمة بجانب والده. هي محاولة لمد يد عبر الزمن، لطمأنة ذلك الصبي الذي لم يكن يتوقع كل ما سيحدث، وإخباره بأنه على الرغم من كل الصعاب، فقد “وصلنا إلى بر الأمان”. هذه الرسالة تحمل في طياتها اعترافاً بالرحلة الصعبة، وامتناناً للحياة، وتقديراً للفناء. الكتاب متاح الآن في صيغه الورقية والإلكترونية، بالإضافة إلى نسخة صوتية رائعة يقرأها كينيث براناغ، مع مشاركة هوبكنز نفسه في قراءة مقاطع مختارة، خاصة تلك الشعرية.
الشعر كملاذ: من “الريح الغربية” إلى المذكرات
الشعر لعب دوراً هاماً في حياة هوبكنز، حيث كان شاهداً على انتصاراته الأولى في المراهقة. فقد طُلب منه إلقاء قصيدة “الريح الغربية” للشاعر جون ماسفيلد، وفوجئ باستقبال إيجابي لم يتوقعه. هذا النجاح المبكر ساهم في بناء ثقته بنفسه، وفتح له آفاقاً جديدة. في كتابه، خصص هوبكنز ملحقاً يضم 15 مقطعة من قصائده المفضلة، مما يعكس استمرارية هذا الشغف طوال حياته. هذا الاهتمام بالشعر يظهر أيضاً في اختياره لأسلوب كتابة يتميز بالجمال والعمق، بعيداً عن السرديات النمطية.
“طفل برأس فيل”: صراعات الهوية والقبول
يصف أنتوني هوبكنز حياته بـ “اللغز الكبير”، لغز لم يصدقه على مدى سنواته المديدة، ولكنه يحتفي به في الوقت ذاته. هذا اللغز يتعلق بصراعه المستمر مع الهوية، والشعور بالاغتراب، والبحث عن القبول. فقد نشأ في بيئة متواضعة، وانتقل فجأة إلى عالم مختلف تماماً، مما أحدث صدمة كبيرة في حياته. كما كشف عن أنه كان يُنظر إليه في طفولته على أنه “طفل برأس فيل”، وهو تعبير يستخدم لوصف الأشخاص الذين يتميزون بذكاء حاد وحساسية مفرطة. هذه التسمية ساهمت في تعزيز شعوره بالاختلاف، وزادت من صعوبة اندماجه في المجتمع. هذه الاعترافات الشخصية تضفي على الكتاب مصداقية كبيرة، وتجعله أكثر جاذبية للقارئ.
مواجهة الشياطين الداخلية: الإدمان والوحدة
لم يتردد هوبكنز في الكشف عن الجوانب المظلمة في حياته، بما في ذلك إدمانه على الكحول، الذي كلفه زواجه الأول وعلاقته بطفله الوحيد. يعترف بأنه كاد أن يفقد حياته بسبب هذا الإدمان، ولكنه تمكن في النهاية من التغلب عليه. كما يتحدث بصراحة عن رغبته الدائمة في العزلة، وخوفه من العلاقات الإنسانية. يقول إنه “يحارب دائماً الرغبة في المضي في الحياة وحيداً وتجنب العلاقات خوفاً من أن يتأذى”. هذه الصراحة الشديدة تجعل الكتاب تجربة قراءة مؤثرة ومفيدة، خاصة بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من مشاكل مماثلة. الكتاب يقدم رؤى قيمة حول الصحة النفسية وأهمية مواجهة الشياطين الداخلية.
“الأب” ومرآة الذات: انعكاسات فنية وفلسفية
يعتبر فيلم “الأب” (The Father) من أبرز محطات هوبكنز الفنية، وقد نال عنه جائزة الأوسكار للمرة الثانية في مسيرته. الفيلم، الذي أخرجه فلوريان زيلر، يتناول قصة رجل مسن يعاني من مرض ألزهايمر، ويواجه صعوبة في التمييز بين الواقع والخيال. هوبكنز تمكن من تجسيد هذه الحالة الشعورية المعقدة ببراعة فائقة، مما جعله يستحق كل التقدير. الفيلم يمثل أيضاً انعكاساً لرحلة هوبكنز الشخصية، حيث يواجه المرء شيئاً من فقدان الذاكرة والارتباك مع التقدم في العمر. هذا الفيلم يظهر قوة هوبكنز كممثل، وقدرته على الغوص في أعماق النفس البشرية.
خلاصة: مصالحة مع الذات ورحلة نحو الحكمة
“لقد نجحنا يا صغيري” ليس مجرد كتاب مذكرات عادي، بل هو عمل فني يجمع بين السيرة الذاتية والفلسفة والشعر. هوبكنز يقدم لنا رؤية صادقة ومؤثرة لحياته، بكل ما فيها من نجاحات وإخفاقات، أفراح وأحزان. الكتاب يدعونا إلى التأمل في معنى الحياة، وقيمة النضال، وأهمية تقبل الذات. إنه تذكير بأن العيش يستحق المغامرة، وأن الانتصار لا يقاس بالشهرة وحدها. هذا الكتاب هو هدية ثمينة لكل من يبحث عن الإلهام والحكمة، ولكل من يسعى إلى المصالحة مع ذاته. لا تتردد في اقتناء هذا الكتاب والبدء في رحلة استكشاف الذات مع أنتوني هوبكنز.


