فيلم “الست” لأم كلثوم: بين النقد والاحتفاء.. وجدل يوقظ الذاكرة العربية
منذ اللحظة الأولى لعرضه، لم يكن فيلم “الست” مجرد حدث سينمائي عادي، بل أشعل موجة من النقاشات الحادة والاحتفاء العاطفي على نطاق واسع في العالم العربي. الفيلم، الذي يروي جزءًا من حياة أسطورة الغناء أم كلثوم، أثار جدلاً لم يقتصر على الأوساط الفنية، بل امتد ليشمل الجمهور العريض الذي تربى على أغانيها ويحمل لها في قلبه مكانة خاصة. هذه التفاعلات لم تكن مفاجئة، فالفيلم لم يطرح قصة فنانة فحسب، بل فتح نافذة على الذاكرة الجماعية والهوية الثقافية العربية.
“الست”: قراءة النقاد الأوليّة وتحفظاتهم الفنية
تلقى فيلم أم كلثوم ردود فعل متباينة من النقاد وصناع السينما. البعض أشاد بالعمل باعتباره محاولة جريئة لإعادة تقديم السيرة الذاتية في السينما العربية، مشيدًا بالجانب التقني الباهر، والتصوير السينمائي المتقن، والإضاءة التي تعكس أجوائها الزمنية، بالإضافة إلى أداء الممثلة منى زكي الذي وصفوه بالمتزن.
ومع ذلك، لم يخل الأمر من انتقادات حادة. اعتبر بعض النقاد أن السيناريو اختار بعناية محطات معينة في حياة أم كلثوم متجاهلاً جوانب أخرى أكثر عمقًا وتعقيدًا، سواء على الصعيد الفني أو السياسي. هذا الانتقاء، في نظرهم، أفقده الكثير من مصداقيته.
انتقادات جوهرية للفيلم
- التركيز على الإبهار البصري: حذر النقاد من أن الفيلم وقع في فخ التركيز المفرط على الجماليات البصرية على حساب الجوهر الدرامي، مما جعله يبدو سطحياً في بعض الأحيان.
- الإيقاع غير المتماسك: أشار البعض إلى أن الإيقاع السردي للفيلم غير متوازن، حيث يتباطأ في بعض المشاهد ويتسارع في مواضع أخرى، مما يعيق الانغماس في القصة.
- الشخصيات الثانوية: رأى البعض أن إدخال شخصيات ثانوية لم يكن مبرراً وأنها قللت من تركيز القصة الأصلية، فضلاً عن غياب شخصيات مؤثرة كان يمكن أن تثري السرد.
- تشويه الرمز: وجه الناقد الكبير الأمير أباظة انتقادًا لاذعًا للفيلم، واصفًا كتابته بأنها “سيئة ومغرضة”. عبر عن قلقه من التركيز على جوانب سلبية في حياة أم كلثوم مثل التدخين، معتبراً ذلك مساسًا برمز فني وثقافي يجب احترامه.
صدى الفيلم في قلوب الجمهور: بين الحنين والتوقعات
على عكس بعض الانتقادات النقدية، وجد الجمهور في فيلم أم كلثوم فرصة لاستعادة ذكريات الزمن الجميل. الكثيرون اعتبروه عودة لـ “الفن النظيف” واستمعوا بشغف لأغاني “كوكب الشرق” خلال عرض الفيلم، مما أثار فيهم مشاعر الحنين والدفء. انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع من الفيلم جنبًا إلى جنب مع تسجيلات أصلية لأم كلثوم.
ولكن، كما هو الحال مع النقاد، لم يخلُ رد فعل الجمهور من بعض خيبات الأمل. اعتبر البعض أن الفيلم “جميل شكليًا ولكنه فارغ من المضمون” بينما رأى آخرون أن منى زكي لم تتمكن من تجسيد روح أم كلثوم بشكل كامل على الرغم من الإمكانات الواضحة. عبارات مثل “أم كلثوم أكبر من أن تختصر في ساعتين” و “الست لا تُجسَّد، بل تُسمَع وتُعاش” تلخص شعور الكثيرين.
فيلم أم كلثوم ليس مجرد عمل سينمائي: إنه مرآة للمزاج العربي
الجدل الدائر حول “الست” تجاوز نطاق تقييم عمل فني ليصبح بمثابة قياس للمزاج الثقافي العربي. هل نحن مستعدون لإعادة قراءة التراث بعيون جديدة، أم نفضل الحفاظ على الصورة النمطية التي نعرفها؟ الفيلم أثار هذا السؤال وغيره الكثير، وأظهر أن أم كلثوم لا تزال قادرة بعد مرور أكثر من نصف قرن على رحيلها على توحيد العرب، حتى وإن كان هذا التوحيد يدور حول الاختلاف في وجهات النظر حول صورتها.
هل يستحق الفيلم كل هذا الجدل؟
لا شك أن فيلم “الست” يمثل إضافة هامة للسينما العربية، فهو يشجع على إعادة إحياء التراث الفني والثقافي. لكنه في الوقت ذاته يذكرنا بأن تناول رموزنا الوطنية والفنية يتطلب حرصًا شديدًا واحترامًا عميقًا لتاريخهم وإرثهم. الفيلم فتح بابًا للحوار والنقاش حول شخصية أم كلثوم ودورها في المجتمع، وهذا بحد ذاته إنجاز يستحق التقدير.
في النهاية، يبقى فيلم “الست” محطة مهمة في مسيرة استكشافنا لذكرياتنا وهويتنا العربية، وقد يكون الشرارة التي تدفعنا إلى إنتاج المزيد من الأعمال التي تحتفي بتراثنا وتساهم في بناء مستقبل ثقافي أكثر إشراقًا. ندعوكم لمشاهدة الفيلم بأنفسكم، وتكوين انطباعاتكم الخاصة، ومشاركة آراءكم حول هذا العمل المثير للجدل.



