يشكل الكتاب في سورية جزءاً لا يتجزأ من تاريخها الثقافي والاجتماعي، لكن عقوداً من الرقابة الصارمة، خاصة في عهد الأسدين الأب والابن (1970-2024)، تركت ندوباً عميقة على المشهد الأدبي والنشر. بين عامي 1970 وحتى سقوط النظام في 8 ديسمبر 2024، عانى الكتاب السوريون من واقع مرير، ورغم التغييرات التي طرأت بعد ذلك التاريخ، لا يزال مستقبل الكتاب والنشر في سورية يواجه تحديات جمة. هذه المقالة تستكشف تلك التحديات والتحولات، مستندةً إلى شهادات من داخل الأوساط الثقافية السورية.
واقع الكتاب في سورية قبل وبعد 2024: تحولات ومآلات
لطالما كان النشر في سورية خاضعاً للوصاية السياسية. استطلعت الجزيرة نت آراء عدد من أصحاب المكتبات، والباعة، والنقاد، ودور النشر لفهم أبعاد هذا الواقع، وكيف تغير بعد سقوط النظام. محمد سالم النوري، صاحب مكتبة النوري العريقة، يصف الوضع قبل 2024 بأنه “رقابة صارمة من مؤسسات الدولة” تمتد إلى الكتب المستوردة أيضاً. ويضيف النوري أن الناشرين كانوا مضطرين للإخفاء والتحوط، خوفاً من المصادرة أو الإغلاق. ويمكن القول أن هذه الرقابة أثرت بشكل مباشر على تنوع الإنتاج الأدبي والفكرى.
الولادة الجديدة: رفع القيود ولكن…
مع سقوط النظام، شهد المشهد الثقافي تحولات جذرية. يؤكد النوري أن “القيود الرقابية أُزيلت بشكل لافت، وبدأت الكتب المحظورة سابقاً تعود إلى الواجهة”. أصبح بالإمكان عرض كتب عن الحركات السياسية، والإسلاميين، والثورة السورية، وأدب السجون، دون خوف من الملاحقة الأمنية. وتصدرت كتب أدب السجون، مثل أعمال ياسين الحاج صالح، والمذكرات السياسية – ككتاب فاروق الشرع -، والقراءات الإسلامية – أمثال “في ظلال القرآن” لسيد قطب – قائمة الكتب الأكثر طلباً، مما يعكس شغف القارئ السوري بمعرفة ما خفي وتجاوزه عقود من الصمت.
تحديات ما بعد الرقابة: الاقتصاد والقرصنة
لكن رفع القيود لم يكن كافياً لإنعاش قطاع الكتاب. يشير النوري إلى عدة عوامل تعيق تسويق الكتاب داخلياً، أبرزها “التكلفة المرتفعة للطباعة، والوضع الاقتصادي المتردي، وضعف القوة الشرارية، وقرصنة الكتب، وتوقف الرواتب”. هذه العوامل مجتمعة تضيق الهامش المتاح لدور النشر، وتجعل الوصول إلى القارئ أكثر صعوبة. كما أن الوضع الاقتصادي الصعب يوجه اهتمام المواطن للاساسيات، كالمواد الغذائية، على حساب المنتجات الثقافية.
مكتبات الرصيف: صمود في وجه القمع والركود
تعتبر مكتبات الرصيف ظاهرة فريدة في دمشق، حيث يعرض الباعة الكتب بشكل عشوائي على الأرصفة، وأشهرها تحت جسر الثورة. كانت هذه المكتبات هدفاً لقمع النظام السابق، حيث تم مصادرة محتوياتها بشاحنات النفايات قبل فترة قصيرة من سقوطه، بذريعة أن “الشارع ليس مكتبة”. عبد الله خلف الحمدان، بائع كتب على الرصيف منذ أكثر من 30 عاماً، يشير إلى أن القراء اليوم “متعطشون لفهم ما جرى”، وأن الكتب الأكثر طلباً هي “كتب التاريخ السياسي السوري، وكتب عن الحرية، والروايات التي تحاكي الأوضاع في الداخل”.
دور النشر: بين الحظر السابق وغياب الرقابة المستقبلية
وحيد تاجا، مدير المكتب الإعلامي بدار الفكر بدمشق، يؤكد أن أهم ما حدث بعد السقوط هو “زوال الكتب المحظورة”. ويذكر أسماء كتاب مثل يوسف القرضاوي، وبرهان غليون، ولؤي الصافي، الذين كانت كتبهم ممنوعة سابقاً، ويتم إخفاؤها في قبو الدار. ويصف كيف كانت دوريات الأمن تجري رقابة دورية على دار الفكر للتأكد من إزالة الكتب المحظورة.
لكن تاجا يثير سؤالاً مهماً: هل أصبح الكاتب أو صاحب دار النشر رقيباً ذاتياً على إنتاجه الأدبي؟ يجيب بأن “الرقابة الحكومية التقليدية قد زالت”، لكنه يرى أن “الوضع الاقتصادي هو العائق الأكبر”. ويؤكد أن الطبقة الميسورة تستطيع شراء الكتب، بينما الطبقة الفقيرة تركز على توفير الضروريات الأساسية.
الكتب المزورة: منافس غير عادل
غسان شبارو، مدير النشر والتوزيع بالدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت، يسلط الضوء على مشكلة “الكتب المزورة أو المصورة” التي انتشرت خلال الأزمة السورية. ويقول إن هذه الكتب “تنافس الكتاب السوري بشكل غير عادل”، لأن تكاليف إنتاجها أقل بكثير، ولا تخضع لحقوق النشر أو الترجمة. ويشير إلى أن القارئ الذي يشتري نسخة مزورة قد يساهم في بيع آلاف النسخ المقرصنة، مما يضر بالمؤلفين ودور النشر.
مستقبل الكتاب في سورية: بين الأمل والترقب
رانيا المعلم، مديرة النشر والتوزيع في دار الساقي، ترى أن “سوق الكتاب في سورية لا يزال مقفلاً”، بسبب “صعوبة شحن وتوصيل الكتب، والوضع الأمني غير المستتب، والقدرة الشرائية المنخفضة”.
علي سفر، الصحفي السوري المقيم في باريس، يرى أن الرقابة قد تراجعت، لكنه يطالب بإصدار تشريعات تنظم النشر “كي لا تترك بدون ضوابط”. ويؤكد أن “منطق الحياة يدفع نحو المزيد من الحريات”، وأن الدولة يجب أن “تدعم هذه الصناعة وتوفر المنح”. ويختتم حديثه بتفاؤل حذر، مشيراً إلى أن “الأمور ضبابية، لكننا متفائلون”.
الخلاصة:
يمر الكتاب في سورية بمرحلة انتقالية معقدة. فقد زالت الرقابة الرسمية، لكن التحديات الاقتصادية، وقرصنة الكتب، وغياب القوانين المنظمة، لا تزال تعيق تطور قطاع النشر. ومع ذلك، هناك أمل في مستقبل أفضل، يتطلب دعماً حكومياً، وتشجيعاً للإبداع، وتوفير فرص للقراء للوصول إلى الكتب التي يحتاجونها. يبقى السؤال: هل ستتمكن سورية من استعادة مكانتها كمركز ثقافي مزدهر، أم ستستمر في مواجهة هذه التحديات؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.



