استعادة الذكريات مع رام الله
تعود بي الذاكرة إلى ما قبل ربع قرن إلى الوراء، وإليك يا رام الله، كما كانت بيت لحم أيام الدراسة صديقة لي، أصبحت يا رام الله صديقة لي أثناء العمل في التدريس، حيث عملت معلما للغة العربية في إحدى قراك المحيطة بك إحاطة السوار الأخضر بالمعصم.
ذكريات الطفولة والصداقة
وكما كنت أسكن أيام التلمذة في غرفة صغيرة إلى جوار مهد المسيح عليه السلام أثناء دراستي في بيت لحم، كنت حريصا على أن أتخذ لي مسكنا في أجمل بقعة من بقاعك يا رام الله، فكنت جارا لمتنزهك الجميل الذي كان يرقد في حضنك كطفل رائع وسيم يستظل بحنان أمه الرؤوم. على قاعدة صداقة المكان التي أؤمن بها وأعتنق تقاليدها الحميمية الدافئة، نشأت صداقة بيننا يا رام الله، فجمع بيننا الصدق، ووحدت قلبينا محبة شعارها الوفاء، وجوهرها الإخلاص والإيثار.
تأثير الاحتلال على العلاقة
ولم نكن نعلم بما تخبئه لنا الأيام من فرقة وهجر ومباعدة، إذ عصفت بنا رياح عدوان الخامس من يونيو/حزيران العاتية عام 1967، ففرقت بيننا، وحرمتنا فرصة اللقاء اليومي الذي اعتدناه، وأقامت في وجه الوصول أو التواصل حواجز مسلحة ونقاط تفتيش معادية وأسلاكا احتلالية شائكة، وأبراج مراقبة ترصد أشواقي إليك، وتعد علي خفقات قلبي المثقلة بالحنين إلى شوارعك ومقاهيك ودوار المنارة فيك يا مدينتي الصديقة.
العودة بعد الفراق
وبعد منع قسري مسلح دام أكثر من 32 سنة، وبعد حرمان طويل غاشم من زيارتك أيتها الصديقة العزيزة، بسبب أشعاري التي ترفض احتلالك، وبسبب أحلامي الورقية التي استنكرت اختطاف عينيك الخضراوين، شاءت قدرة الله سبحانه أن أعود إليك زائرا لا مقيما، في يدي تصريح زيارة، وفي عيني الغائمتين مطر حزين.
تأثير الشعر على العودة
والمفارقة العجيبة، أيتها الصديقة، أن الشعر الساخن الذي كتبته ضد احتلال عينيك، ودفع سلطات الاحتلال إلى اعتقالي وإبعادي عنك، وإغلاق كل المعابر والجسور التي يمكن لها أن توصلني إليك، ولمدة تزيد على 3 عقود قاسية، أنني عدت إليك بعد كل هذا الفراق والإبعاد بقصيدة ساخنة الصور، ثائرة المعاني، من ذات الشعر الذي تسبب في طردي عن قلبك الوفي ووجدانك الفائض بالمحبة والإخلاص.
مهرجان رام الله للثقافة والفنون
وهكذا شاء الله سبحانه أن تنجح محاولتي الأخيرة في الوصول إليك، فكان أن عدت عام 2000، وقبل انتفاضة الأقصى بشهرين، ومعي نشيد “فجرنا” الذي كتبته، وتم تلحينه وتسجيله في عمان الحبيبة الأبية، ليكون افتتاح مهرجان رام الله للثقافة والفنون، أي مهرجانك للعام 2000، أيتها الصديقة العزيزة، أعزك الله ورعاك وحماك من أذى المحتلين وعيون المستوطنين الطامعين.
وقفة مع النفس
وللصدق أقول يا رام الله: إنني رأيتك أقوى مني، وأقدر على احتمال الهجر والفراق، وأصلب مني قلبا وعودا على مقاومة الاحتلال، والتصدي لرياح الاستيطان العاتية، وأكثر بسالة مني على كسر الحصارات المتكررة والمداهمات العسكرية المتجبرة.
الختام
إن هذه الذكريات وأشعلها خبر صادم عن مصادرة سلطة الاحتلال لـ73 دونما من أراضيك وأراضي شقيقتك المجاورة لك، مدينة البيرة، التي اشتهرت بمواجهة شبابها لجنود الاحتلال في كل واقعة وصدام. لكنك ما زلت، بإرادة شعب الجبارين، قادرة على مواجهة كل التحديات والظروف القاسية والحصارات الجائرة والحواجز البغيضة التي تفصلك عن قراك، وعن سائر مدن وقرى فلسطين المقطعة الأوصال والسبل. لست وحدك يا رام الله، فالله معك، وعقل الأمة معك، وقلبي عليك يا صديقتي الغالية الوفية.


