«في الماءِ موسيقى وفي رأسي بحارٌ لا تكفُّ عن الهديرِ

وفي القصيدةِ نزوةُ امرأةٍ لعوبٍ لا تكفُّ عن الغناءِ»

………

«القصيدةُ أُنثى تلوِّحُ من شرفةِ الصيفِ

للغرباءِ الحيارى وللشعراءِ السكارى

تعدُّ لكَ الهالَ بالزنجبيلِ صباحاً

وحضناً وثيراً لكيْ تستريحَ

من الركضِ في فلواتِ المعاني الشريدة..»

(1)

هكذا ومنذ بدء قراءتي النقدية لتجربة الشاعر الفلسطيني نمر سعدي أجدني أصل إلى «فرضية نقدية» أولى وليست بالأخيرة كي أقول: يكاد يكتب الشاعر قصيدته كلها في ديوانيه: (ظلال مضاعفة بالعناقات) و(نساء يرتبن فوضى النهار)، بهمٍ جمالي واحدٍ يتنوع في قصيدته الكليّة وبمعنى واحدٍ وجدته لا يتعدد بل يتنوّع ويتسع أفقه التخييلي واللغوي أي أنه تنويع على الوحدة الجمالية الواحدة، وبنفس عشقي طويل وحارق لا ينتهي بل يزداد احتراقاً. يكتب قصيدته بروح عطشى للمرأة/‏ الحلم أو المرأة/ ‏الوهم، أو العشق المستحيل. وينحاز للقصيدة/‏ المرأة، أو المرأة/‏القصيدة في تجسداتها وتمثيلاتها الوجودية وتشكيلاتها الجمالية.

قصيدته ترتمي في كيميائيات شعرية فوّارة ومتنامية في لغتها وأحاسيسها في تماهٍ استثنائي وجلي مع المرأة روحاً وجسداً ورؤية، منسرباً هذا التماهي ومنتهياً بالضرورة إلى صلب المعنى المراوغ لحضور المرأة الحارق بصورها المتعددة في ذات الشاعر وفكره وحدوساته..

ولعلي أنوّه هنا بأنّ الديوانين في الحقيقة لا يمثلان بالطبع تمثيلاً كاملاً لتجربة شاعرنا الاّ أنهما متشابهان في اللغة والثيمة (الموضوعة) والتفكير الشعري، فللشاعر كما عرفت أكثر من 10 دواوين الاّ أنهما كل ما حصلت عليه من الشاعر نفسه، وجدتهما معبّرين تماماً عن الموضوعة الرئيسة/‏ المرأة لديه في أطيافها وتدفقاتها وتقلباتها وتموّجاتها وإغواءاتها ورمزياتها وإيحاءاتها التي أعدها الجوهر المطلق التي تقترب منه قصائد الشاعر وتحترق في أتونه!

«وما القصيدةُ واختلاجاتُ النهارِ

سوى المسافةِ بين نافذةٍ وعصفورٍ على وترٍ

تعبتُ لأنني أمشي وفوقي كلُّ أحزانِ القرونِ

كأنَّ لي قلبا يجفُّ

كأنَّ بي قمراً يشفُّ عن التماعاتِ العيونِ..»

تبدو لي قصائد نمر العشقية كأنها تبتعد عن الواقع الماثل وميثيولوجياته، وتؤسس لواقع أنطولوجي جديد آخر تماماً كما كتب ملارميه الشاعر الفرنسي أحد أقطاب الشعراء الرمزيين الذين كرّسوا جمالية الترميز والإيحاء واستغرقوا في الانغماس في غموض المعنى المطلق!

إذاً، ما الذي يتكرر في قصائد الشاعر نمر من مفردات واستعارات؟

من أين ندخل إلى عالمه الجمالي؟

كيف شكل بناء القصيدة الجمالي؟

ما أثر الخيال الشعري والتخييل على التركيب الجمالي كله؟

هذه كلها أسئلة ملحة تطرح بقوة عند قراءة التجربة الشعرية المائزة للشاعر نمر سعدي..

القصيدة كما هي عند شاعرنا كثيراً ما تبث في لغتها إشعاعاتٍ إيحائية يؤخذ المتلقي بها، وبقدرتها الهائلة في التشكيل اللغوي، بل إن الشعر عنده ليس الاّ موجاتٍ متلاحقة من الكلمات في جذرها وفي منبعها تأتي محفورة بسحر اللغة بما تمتلكه من طاقات حسية أو عشقية كقطعة لحنية متعددة من الإيقاع والنغم والصوت.

«مثل هذا الشعر الذي يعتمد على سحر اللغة وإيحاءاتها يزيد من سلطان الكلمة ويجعلها أصل الفعل الشعري وأول أسبابه» عل حد قول الأديب الفيلسوف عبدالغفار مكاوي..

فحين ننظر إلى طبيعة الفعل الشعري عند نمر سعدي نجده هكذا، فنرى في كثير من قصائده ذلك الحس العشقي وصورة تلك المرأة-القصيدة في المطلق من الكلمات وليس في المعاش من الحدث أو الواقع أو التجربة فالشاعر إدجار ألن بو يرى في الشاعر الذي يقترب شعره من مفهوم الشعر المحض يصمم قصيدته مبتدئاً بقوة النغم اللغوي أو الطاقة الصوتية السابقة على المعنى، إذ حين تصبح القصيدة كاملة التشكيل يسعى حينها لإضفاء المعنى قبل أن يعيد صياغتها.

فهل يضيف نمر سعدي هذا المعنى لاحقاً أو سابقاً لصياغاته؟

هل تكتبه القصيدة أم يكتبها؟

وكما قلت، فهذا الشعر الذي يكتبه نمر سعدي ينبع من طاقة حسية ونغمية محتدمة قبل كل شي حيث إن المعنى أو الدلالة تأتي من أقاصي التشكيل لا من صلبه، وقد لا تأتي!

إذاً، يكتب نمر سعدي تجربة العشق أو حالاته ليس كتجربة شخصية أو تمثيل لحالة واقعية أو ذاتية، بل كحالة تخيلية مفترضة، كتجربة كونية نجد أنفسنا بين أطيافها وأحوالها.. وتبدلاتها.

ربما الميزة الوحيدة التي تؤكد تأثر نمر بالرمزين الفرنسيين في شعره أن موضوعاته الشعرية تقريباً محدودة وتكاد أن لا تخرج عن الثيمة الرئيسة، وهي التغني بالأنثى وجسديتها، والقصيدة وتمثيلاتها.

في بعض قصائد نمر نجد ذلك التضاد بين عذوبة اللغة ومفرداتها المبتكرة وانشغالاتها وفكرة المضمون أو الدلالات.

نعم تأثر كثيراً نمر سعدي بالشعراء الرمزيين كما يصرّح هو ذاته، تأثّر في كونه يكتب للشعر الخالص بما يملك من قوة الخيال والسحر والرؤيا، يعني بصنعته وشكل القصيدة كنحاتٍ لا يعنيه غير خلق تمثاله اللغوي بالطريقة التي تحفّز على متعة البصر ولذة الرؤية..هو كذلك شاعرنا «يقدم موسيقى الكلام والإيقاع على الفكرة والمعنى والمضمون».

(2)

كثيراً ما نلحظ في شعر نمر سعدي تلك النظرة الذاتية المثالية التي تميّز بها الشعراء الرمزيون، إلا أن من جاء بعدهم تجاوزوها قليلاً، وانتبهوا للواقع والعالم الخارجي، ونوعوا موضوعاتهم من خلال ذواتهم ورؤيتهم المثالية.

فالحسي في بعض قصائد نمر سعدي «يوظف بفعالية بالغة لتجسيد المعنى التجريدي بطريقة تشكيلية خلابة» على حد قول الناقد القدير صلاح فضل.

«أُعانقُ الأرضَ وحدي.. إنها امرأةٌ

نقشتُ زرقةَ عينيها على العنبِ

أُعانقُ القلقَ الفضيَّ.. أشربهُ

من خصرها البحرِ.. أو من شَعرها الذهبِ»..

في شعره يمتّعنا هذا التعبير عن خلجات الروح القلقة بالانثيالات التخييلية المضفورة باللغة، والمفردات المدهشة تلك التي نجدها مرة كوثبات خيالية نزقة ومراتٍ كتحليقات خيالية هاربة من جحيم المعنى وإرهاقاته القلقة فتصبح قصائده كلها في الديوان كأنها قصيدة واحدة ذات ثيمة وحيدة مستطردة في أجواءٍ مختلفة مفتتاً إياها الشاعر في مقاطع وعناوين مغايرة وعبثية لا تشير إلى عوالم شعرية أخرى ولا تغري بالتأويل الدال على القصيدة ذاتها، أي ليست بالضرورة أن تكون منعطفاتٍ وفواصلٍ منتقلةٍ بالمتلقي إلى دلالاتٍ جديدة..أو موضوعاتٍ مختلفة في القول الشعري، فن قولي تنسجه اللغة والموسيقى والإيقاع الرشيق، فقصائده كلها إنما هي عمارة لغوية واحدة لبنية تخيلية عالية متحركة ومهتزة على رمالٍ قلقة من المعاني المتشابهات، يجترحها نمر في كتابته الشعرية، ويلعب بها بمهارة على حبال طويلة من المفردات والاستعارات والمجازات.. ويشيدها مرةً بضمير المتكلم/‏ذات الشاعر ومرةً بضمير المخاطب/‏ذات المرأة أكانت عاشقة أم نافر جيدها في الريح لكي تكمل تباريح القصيدة.

«ما من امرأةٍ

إلَّا وكانت صدى قبضٍ من الريحِ

أو خيمةً من سرابِ الموجِ مغلقةً

لا تحتوي أحداً في الأرضِ أو توحي

ضلِّيلُ رغبتها قلبي.. وما خُلقتْ

إلَّا لتكملَ نقصانَ التباريحِ»..

ربما نقول إن النفس التخييلي المسترسل هو ما يميز القصيدة عند نمر سعدي، النفس التخييلي الذي يقوده إلى تنويع الكتابة الشعرية على نفس الثيمة بطريقة مدهشة وبمنطق تداعيات الشعور الداخلي.

«ثمَّةَ حبرٌ خفيٌّ.. نُسمِّيهِ فصلَ الخريفِ

يذكِّرني بالأغاني التي لا تُغنَّى على عجلٍ في مهبِّ القطارِ

يحمِّلني مطراً زاجلاً لضفيرةِ إحدى النساءِ اللواتي هربنَ

من الاستعارةِ في مسرحيَّاتِ أسخيليوس..»

تتجسد القصيدة كامرأة يبحث عنها في كل الأنحاء.. ويصف كيف تتكون القصيدة منبثقة من كل الأشياء التي حوله ويستذكر كل الأغاني.. فقصيدته هي كل العالم وكل الأرض وكل النساء وكل الذكريات وكل القراءات، لا تنوجد وحدها بل بغيرها.

وكأن الشاعر لا يكتفي بما كتبه، بل يبحث عن قصيدته الأخرى الأجدّ داخل قصيدته المكتوبة.

ولعل من الضرورة أن نقول من أجل الحقيقة الشعرية الخالصة: لم يقترب نمر سعدي في تجربته الشعرية من الهم السياسي أو الأيدولوجي لا استغراقاً ولا تلميحاً كما فعل مواطنوه من الشعراء الفلسطينيين من كانوا في الشتات أو داخل الأراضي المحتلة، إنما اجترح لغة شعرية خاصةً به، ومفهوماً للقول الشعري ارتهن لشرطه الجمالي والتخييلي ولأبعاده الإنسانية والحلمية فيما تروم إليه الذات الشاعرة بالتناغم مع ضروراتها التعبيرية عن رؤياها ورؤاها وما يمليه عليها الوعي الكتابي ومعتقده الشعري في حدوده وأفق حريته.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version