ودعت الأوساط الفنية والثقافية المصرية المخرج الكبير داود عبد السيد، الذي رحل عن عالمنا عن عمر يناهز 79 عامًا، تاركًا وراءه إرثًا سينمائيًا فريدًا جعله يستحق عن جدارة لقب “فيلسوف السينما”. الخبر المؤلم أعلنه زوجته، الكاتبة الصحفية كريمة كمال، عبر صفحتها على الفيسبوك، ليغرق المجتمع المصري في حزن عميق على فقدان قامة فنية وإنسانية.

رحيل أيقونة السينما المصرية

رحيل داود عبد السيد لم يكن مجرد فقدان لمخرج، بل كان خسارة لصاحب مشروع سينمائي متكامل، تميز بالعمق الفكري والبحث الدائم عن المعنى في تفاصيل الحياة. نقابة السينمائيين نعت الراحل في بيان رسمي، واصفة إياه بأحد أبرز وأكثر المخرجين المصريين تأثيرًا في تاريخ السينما والحياة الثقافية، ومؤكدة على مسيرته النضالية البارزة في العمل النقابي.

المخرجة المصرية كاملة أبو زكري ودعت عبد السيد بكلمات مؤثرة، كتبت: “مع السلامة يا أستاذ يا فيلسوف السينما.. تعلمنا من شغلك الجلوس معك درس في الكون والحب والفن”. الفنانة منى زكي عبرت عن حزنها العميق من خلال حسابها على إنستغرام، قائلة: “في الجنة ونعيمها أستاذنا المبدع”. أما المخرج أمير رمسيس فقد اعتبر هذا اليوم من أسوأ الأيام التي مرت على السينما المصرية والعربية، وكل من عرف داود عبد السيد شخصيًا.

أزمة صحية ومسيرة فنية حافلة

عانى المخرج داود عبد السيد من أزمة صحية خلال السنوات الأخيرة من حياته، حيث كشف الموسيقار راجح داود، أحد أقاربه، أنه كان يعاني من فشل كلوي ويتلقى العلاج بشكل منتظم. كما صرح وزير الثقافة المصري أحمد هنو في وقت سابق بأن حالة عبد السيد الصحية كانت حرجة، مما استدعى نقله المتكرر إلى المستشفى لتلقي الرعاية اللازمة.

على الرغم من هذه الظروف الصحية الصعبة، يظل إرث داود عبد السيد الفني شامخًا. فقد أعلن اعتزاله الفن في يناير 2022، معللًا ذلك بعزوف المنتجين عن أعماله، وتغير اهتمامات الجمهور نحو الترفيه السطحي بدلًا من الأفلام التي تطرح قضايا فكرية واجتماعية. لكنه عاد لاحقًا ليؤكد أن قراره لم يكن نهائيًا، وأنه مستعد للعودة إلى الإخراج إذا توفر إنتاج جاد يدعم رؤيته الفنية.

“فيلسوف السينما” ورؤيته المتميزة

منذ أواخر الستينيات، قدم داود عبد السيد أعمالًا سينمائية تركت بصمة لا تُمحى في المشهد السينمائي المصري. بدأ مسيرته كمساعد مخرج في فيلم “الرجل الذي فقد ظله” عام 1968، وهي التجربة التي شكلت نقطة تحول حاسمة في حياته، على الرغم من أنه لم يكن يطمح في البداية للعمل في مجال السينما، حيث كان يحلم بالصحافة.

لكن زيارة عابرة لأستوديوهات جلال، ومشاهدة فيلم “أورفيوس الأسود” للمخرج الفرنسي مارسيل كامو، غيّرتا مسار حياته، وساهمتا في إعادة تشكيل جزء من ملامح السينما المصرية. فضل عبد السيد الدراسة الأكاديمية، والتحق بمعهد السينما، حيث كان ضمن الدفعة الخامسة التي ضمت أسماء لامعة مثل علي بدرخان وخيري بشارة، وتخرج عام 1967 برؤية فنية فريدة.

تأثير النكسة والسينما التسجيلية

لعبت المرحلة التاريخية التي عاشها عبد السيد، وخاصة نكسة عام 1967، دورًا حاسمًا في تشكيل وعيه الفني والفكري. زاد ذلك من انشغاله بالأسئلة السياسية والإنسانية والفلسفية، وهو ما انعكس بوضوح على أعماله التي اتسمت بالحس الإنساني والجمالي العميق، وابتعدت عن الطرح المباشر.

بدأ عبد السيد مسيرته من خلال السينما التسجيلية، حيث قدم فيلم “وصية رجل حكيم” عن شؤون القرية والتعليم، والذي أهداه إلى الأديب طه حسين، تعبيرًا عن إيمانه بأهمية التعليم المجاني. واصل تجربته التسجيلية بأفلام أخرى مثل “العمل في الحقل” و”عن الناس والأنبياء والفنانين”، قبل أن ينتقل إلى السينما الروائية.

قلة الإنتاج وعمق المعالجة

على الرغم من شغفه بالإخراج، لم يكن داود عبد السيد من المخرجين الذين يسعون إلى كثافة الإنتاج. فمنذ فيلمه الروائي الأول “الصعاليك” وحتى آخر أعماله “قدرات غير عادية”، اكتفى بتقديم تسعة أفلام فقط، تعامل معها بوصفها مشروعات فكرية وفنية تحتاج إلى زمن وتأمل، مفضلاً العمل المتأني على التراكم الكمي. غالبًا ما تولى كتابة السيناريو بنفسه، باستثناء فيلم “أرض الأحلام” الذي كتبه هاني فوزي.

أكد عبد السيد في تصريحات سابقة أن الكتابة جزء لا يتجزأ من رؤيته الإخراجية، معتبرًا أن كتابة السيناريو هي لحظة حسم مبكر للخيارات الفنية، وأن الإخراج هو مجرد ترجمة بصرية لما تشكل ذهنيًا. وقد تأثر في هذا النهج بالموجة السينمائية الفرنسية الجديدة التي ظهرت في الخمسينيات، والتي رسخت مفهوم “المخرج المؤلف” كصاحب الرؤية الكاملة للعمل.

جوائز وتكريمات تعكس المسيرة

حصل داود عبد السيد على العديد من الجوائز والتكريمات على مدار مسيرته الفنية، مما يعكس مكانته المتميزة في السينما المصرية والعربية. فاز فيلمه الأول “الصعاليك” بجائزة العمل الأول من مهرجان أسوان الأكاديمي، بينما حصد فيلمه الثاني “البحث عن سيد مرزوق” عدة تكريمات، بما في ذلك جائزة الهرم الفضي من مهرجان القاهرة السينمائي.

أما فيلم “الكيت كات” فقد حقق نجاحًا نقدياً وجماهيرياً واسعاً، وتُوّج بالعديد من الجوائز، أبرزها الجائزة الذهبية من مهرجان دمشق، وجائزة السيناريو من مهرجان معهد العالم العربي في باريس. كما نال فيلم “سارق الفرح” الجائزة البرونزية في مهرجان دمشق السينمائي، وجائزة الجمهور من مهرجان سورينتو بإيطاليا. وفي عام 2022، كُرّم عبد السيد في مهرجان قرطاج السينمائي.

وبرحيل داود عبد السيد، تفقد السينما المصرية أحد أهم مخرجيها وأكثرهم تميزًا، تاركًا وراءه أفلامًا قليلة العدد، لكنها تركت بصمة لا تُمحى في تاريخ السينما المصرية والعربية، وستظل مصدر إلهام للأجيال القادمة من المخرجين.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version