قبل 25 عاماً انطفأ الصوت الذي كان يشبه نافذة مشرعة على اتساع السماء. رحل طلال مداح، لا كفنان عابر في سجل الأغاني، بل كأب روحي للفن السعودي، وملهم لجيل لم يكن يكتفي بسماع أغنياته، بل كان يتعلّم منها كيف يكون الفن حياةً، وكيف تكون الحياة فناً. ولو قُدّر له أن يعيش بعمره الافتراضي اليوم لكان قد بلغ الرابعة والثمانين، وربما كان لا يزال قادراً على صوغ ألحان جديدة تُربك اليقين، وتفتح أفقاً آخر للأغنية السعودية.

كان طلال مداح أكثر من مجرد حنجرة ذهبية؛ كان عقلاً موسيقياً يسبق زمنه، وقلباً يرى في النغم لغةً لتوحيد الناس على اختلاف أمزجتهم. امتلك قدرة نادرة على جعل الأغنية السعودية تنفتح على العالم، دون أن تفقد لهجتها الدافئة، أو أصالتها الضاربة في عمق الصحراء والبحر. لم يكن يغني ليمضي الوقت، بل ليعيد تشكيله؛ يختصر الحكايات في لحن، ويزرع العاطفة في كل وتر يعزفه.

ماذا لو لم يمت طلال مداح قبل ربع قرن؟ ربما كان المشهد الغنائي السعودي قد تبلور على نحو آخر؛ أكثر تنوعاً، أكثر منافسة، وأكثر احتشاداً بالمدارس والأصوات. وربما لم يبق محمد عبده وحيداً في القمة بلا منافس، وربما كان أداؤه سيبقى في حالة استنفار دائم، مدفوعاً بوجود الندّ الذي يراقب خطواته ويشعل في داخله التحدي. فمنذ غياب طلال فقد المشهد تلك المعادلة الذهبية التي كانت تشعل الإبداع، وتضع كل نجم في امتحان دائم أمام الجمهور وأمام نفسه.

لقد كان طلال مداح بمثابة الجسر الذي عبرت عليه الأغنية السعودية من المحلية إلى رحابة العالم العربي. رؤاه الفنية كانت أكبر من محيطه، وقراءته لمستقبل الموسيقى كانت أشبه بنبوءة لم يكتمل نصها. لذلك، بقي فراغه شاسعاً؛ لا لأن أحداً لم يجرؤ على ملء مكانه، بل لأن ذلك المكان لم يُخلق ليملأه سواه.

رحل طلال، لكن صوته ما زال يأتينا من مسافة زمنية بعيدة، كأنه يسأل: هل ما زلتم تؤمنون أن الفن أكبر من الشهرة، وأطول عمراً من الجسد؟ سؤال يبقى معلقاً في الأفق، حيث يقيم طلال مداح أبديته.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version