في مشهد يجمع بين القوة الفكرية والبساطة الروحية، يبرز كتاب “النجاة في القرن الحادي والعشرين” كدعوة للتأمل في مسارات مختلفة تتلاقى في هدف واحد: البحث عن العدالة والحرية الإنسانية. يقدم الكتاب حوارًا فريدًا بين المفكر الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي والرئيس الأوروغواياني الراحل خوسيه موخيكا، يستكشفان فيه تحديات العصر المعاصر وسبل مواجهتها.
نعوم تشومسكي وخوسيه موخيكا: حوار بين جيلين
تُظهر صورة تشومسكي محاطًا بأكوام الكتب في مكتبه الجامعي، وموخيكا في مزرعته المتواضعة، تباينًا صارخًا في الخلفيات والمسارات الحياتية. ومع ذلك، يتقاسم هذان الشيخان اليساريان التزامًا عميقًا بالقيم الإنسانية، ويسعيان إلى فهم كيف وصلنا إلى هذه اللحظة التاريخية الحرجة. الكتاب، الذي يوثقه المخرج المكسيكي ساؤول ألبيذره، يوجه رسالة إلى جيل الشباب، جيل 1988، الذي يبحث عن بوصلته في عالم مضطرب.
جذور الأزمة: من الحرب العالمية الثانية إلى العصر الأنثروبوسيني
يعود نعوم تشومسكي إلى عام 1945 كنقطة تحول حاسمة في تاريخ البشرية. فبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، دخلنا عصرين جديدين في آن واحد: العصر النووي والعصر الأنثروبوسيني، حيث أصبح النشاط البشري قوة جيولوجية قادرة على تغيير البيئة بشكل جذري. يشدد تشومسكي على أن البشرية تمتلك الآن القدرة على إنهاء الحياة على الأرض بطريقتين: الإبادة الفورية عبر الأسلحة النووية، أو التدهور المناخي البطيء.
يلفت تشومسكي الانتباه إلى أن المجتمعات التي تتعامل بجدية مع تهديد المناخ ليست تلك الغنية التي تسببت فيه، بل المجتمعات الأصلية التي غالبًا ما تُعتبر “غير متحضرة”. إن اعتراف الإكوادور الدستوري بـ”حقوق الطبيعة” وقانون “الأرض الأم” في بوليفيا يمثلان نموذجًا يحتذى به في مواجهة الدول الصناعية التي تتسابق نحو الخراب البيئي.
العجز الإرادي والثقافة المضادة للرأسمالية
يرى خوسيه موخيكا أن العالم يعاني من “عجز إرادي” عميق. فبينما تمتلك البشرية القدرة التقنية للنجاة، فإنها تفتقر إلى البنية السياسية اللازمة لاتخاذ القرارات الضرورية. يتساءل موخيكا بمرارة: “هل لدى البشرية الوقت الكافي لتصحيح الأخطاء التي ارتكبتها، أم أننا سنستسلم لمحرقة بيئية؟”.
ويضيف موخيكا تحذيرًا هامًا: “ارتكب جيلي خطأ ساذجًا، اعتقدنا أن التغيير الاجتماعي يعني تحدي أنماط الإنتاج والتوزيع في المجتمع، ولم ندرك الدور الهائل للثقافة”. ويؤكد أن الرأسمالية ليست مجرد نظام اقتصادي، بل هي ثقافة يجب مقاومتها بثقافة بديلة. هذه النقطة تعتبر من أهم الأفكار التي يطرحها الكتاب.
صعود الفاشية الجديدة والتحول النيوليبرالي
يتوقف الحوار عند صعود الأحزاب الفاشية الجديدة في أوروبا، حتى في البلدان التي كان يفترض أن تكون محصنة بالذاكرة التاريخية. يربط تشومسكي هذا الصعود بعقود من السياسات النيوليبرالية التي أدت إلى تفكك المجتمعات وزيادة الفقر والخوف.
ويشرح تشومسكي كيف تم تقديم نقل السلطة من الدولة إلى السوق بوصفه توسيعًا للحرية الفردية، بينما كان في الواقع نقلًا للقرار من المجال العام إلى الشركات العملاقة التي لا تخضع للمساءلة. ويضيف موخيكا بعدًا إنسانيًا: فالديمقراطية ليست مجرد مؤسسات، بل شعور بالكرامة والانتماء، وحين تتحول السياسة إلى إدارة تقنية تخدم النخب، يفقد الناس ثقتهم بالنظام برمته.
أمريكا اللاتينية: بين الأمل والانتكاس
قبل عقد من الزمن، كانت أمريكا اللاتينية تقدم كأفق بديل للعالم وقوة اقتصادية صاعدة. لكن سرعان ما عادت لتجد نفسها في قلب عواصف التضخم والانتكاسات الاقتصادية. يحلل تشومسكي إرث العقود النيوليبرالية التي ضربت القارة في الثمانينيات والتسعينيات، قبل أن تنجح دولها في كسر قبضة صندوق النقد الدولي.
لكن هذه الإنجازات جاءت محملة بأخطائها الخاصة: تفشي الفساد، وضعف الإرادة السياسية، والاعتماد المستمر على تصدير المواد الخام. يقدم موخيكا تشخيصًا قاتمًا: حقوق العمال في تراجع، واليمين يصعد. ومع ذلك، يرى أن المقاومة موجودة في الشباب والحركات الاجتماعية، وفي نماذج مثل حركة “العمال المعدمين” في البرازيل.
الحب والسعادة والبحث عن المعنى
في ختام الحوار، يتحدث نعوم تشومسكي عن الحياة الهانئة، مستشهدًا بعمر الخيام: “جرة خمر، ورغيف خبز، وأنت إلى جانبي تغنين في الفلاة”. الحب، بالنسبة لتشومسكي، هو قوة خالدة.
أما موخيكا، فيرى أن “لا سعادة بلا حرية”، وأن الحرية تُسلب بسهولة في الطريقة التي ندير بها وقتنا. ويؤكد أن الحياة التي تقوم على الدَّين والتراكم والعمل الذي لا ينتهي ليست مرهقة فحسب، بل بلا حرية. ويضيف أن الانتحار ليس جبنًا، بل فقدانًا للأفق واليوتوبيا.
يدعونا الكتاب إلى إعادة التفكير في الأساسيات التي أهملها عالم مسرع، وإلى إدراك أن السياسة ليست مجرد تقنية حكم، بل سؤال أخلاقي يومي عن معنى العيش مع الآخرين. إن “النجاة في القرن الحادي والعشرين” ليس مجرد حوار بين مفكرين، بل هو دعوة إلى العمل من أجل عالم أكثر عدلاً وإنسانية.


