في قلب بغداد النابض، وتحديدًا في شارع المتنبي العريق، يختبئ كنز ثقافي فريد من نوعه. إنه ليس متحفًا فخمًا ولا مركزًا حديثًا، بل هو قبو متواضع يحمل اسم “مكتبة الحكمة”، أسسه الحاج عدنان جعفر غني، ليصبح ملاذًا للقراء ومحبي المعرفة على اختلاف مستوياتهم. هذه المكتبة الصغيرة، التي تجاوزت ثلاثة عقود من العطاء، ليست مجرد مكان لبيع الكتب، بل هي رسالة تهدف إلى نشر الثقافة وإتاحة القراءة للجميع.
قصة تأسيس مكتبة الحكمة: حب القراءة ورسالة سامية
بدأت قصة مكتبة الحكمة من شغف شخصي بالقراءة لدى صاحبها، الحاج عدنان. يقول الحاج عدنان: “بدأت فكرة المكتبة من منطلق أنني دائم الاهتمام بالقراءة، وهكذا بدأت بالكتاب، وقد مضى على تأسيس المكتبة نحو 3 عقود”. لم يكن الهدف ربحيًا في البداية، بل كان رغبة في مشاركة هذا الحب مع الآخرين.
مع مرور الوقت، تحول هذا الشغف إلى مشروع ثقافي مستدام، يعتمد على تجميع الكتب من مصادر متنوعة. يشرح الحاج عدنان مصادر الكتب قائلًا: “تتمثل مصادرها في البيوت التي تؤول إليها تركات الكتب (الإرث)، والمسافرون، والمحتاجون، والمعارض التي أقيمت في العراق. أضف إلى ذلك التعامل بين المكتبات، حيث يبيع بعضنا لبعض.” لكنه يؤكد أن الأمر يتجاوز مجرد التجارة، فالقراءة بالنسبة له هي “وسيلة لترقية الإنسان”.
أسعار رمزية وكتب مجانية: القراءة حق للجميع
ما يميز مكتبة الحكمة حقًا هو أسعارها التي لا تكاد تُذكر، أو تقديم الكتب مجانًا لمن لا يملك القدرة على شرائها. هذه المبادرة ليست مجرد عمل خيري، بل هي تجسيد لقناعة الحاج عدنان بأن القراءة حق أساسي للجميع، بغض النظر عن ظروفهم المادية.
“وأُبلغ الجميع: أي شخص ليست لديه إمكانية للشراء، فالكتاب له مجاناً”، هكذا يعلن الحاج عدنان ببساطة، مؤكدًا على التزامه بتوفير المعرفة لكل من يرغب بها. هذه السياسة جعلت المكتبة وجهة مفضلة للطلاب والباحثين والمثقفين من مختلف الخلفيات.
تنوع الكتب والمجالات المعرفية
لا تقتصر مكتبة الحكمة على نوع معين من الكتب، بل تضم مجموعة واسعة ومتنوعة تغطي مختلف المجالات العلمية والأدبية. يؤكد الحاج عدنان: “تحوي المكتبة كل أنواع العلوم وبكل اللغات، من الطب إلى الكتب الشرعية، فهذه الكتب متوفرة.” هذا التنوع يجعلها كنزًا حقيقيًا للباحثين عن المعرفة، حيث يمكنهم العثور على الكتب التي يحتاجونها مهما كانت تخصصاتهم. كما أن وجود كتب بلغات مختلفة يفتح آفاقًا جديدة للقراء الراغبين في استكشاف ثقافات أخرى.
إشادة المجتمع وأهمية دعم المبادرات الثقافية
تلقى الحاج عدنان ومبادرته الثقافية إشادة واسعة من المجتمع العراقي. جاسم الشويلي، أحد زوار المكتبة الدائمين، يصفها بأنها “مبادرة جيدة بالنسبة له وبالنسبة للمجتمع كله، وللناس الذين يستفيدون من هذه الكتب، خاصة الطلاب أو القراء العاديين، إذ يستفيدون منها مجاناً”. ويضيف أن الحاج عدنان “يوزع دائما الكتب على الناس، للمحتاج ولغير المحتاج، ليس بناء على الحالة المادية، وإنما هو يقدم هذا الأمر كشيء مفيد للمجتمع بأسره”.
صفي أحمد، وهو أحد مالكي المكتبات في شارع المتنبي، يرى أن مبادرة الحاج عدنان تأتي في وقت حرج يعاني فيه المجتمع من “أزمة ثقافة اجتماعية على كل الأصعدة”. ويشير إلى انتشار “المحتوى الهابط البذيء” عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مؤكدًا على الحاجة الماسة إلى “صالونات ثقافية” و”ندوات عن الثقافة” لتوعية المجتمع بأهمية القراءة والمعرفة. المكتبات المستقلة مثل مكتبة الحكمة تلعب دورًا حيويًا في هذا السياق.
مكتبة الحكمة: دعوة للشباب واستثمار في المستقبل
لا يكتفي الحاج عدنان بتقديم الكتب بأسعار زهيدة أو مجانية، بل يطلق دعوة صريحة للشباب لزيارة المكتبة والاستفادة من كنوزها المعرفية. “أدعو جميع الشباب، نساء ورجالا، أن يجعلوا هذه المكتبة مكتبتهم، وأن يأخذوا أي كتاب يعجبهم، سواء كان مجانا أو بسعر زهيد أو بنظام الإعارة”، هكذا يخاطبهم بحماس.
إن دعم هذه المبادرات الثقافية هو استثمار في مستقبل العراق. تشجيع القراءة ليس مجرد هدف نبيل، بل هو ضرورة حتمية لبناء مجتمع واعٍ ومثقف قادر على مواجهة التحديات وتحقيق التقدم والازدهار. شارع المتنبي، بفضل مبادرات مثل مكتبة الحكمة، يظل قلب بغداد الثقافي النابض، ومنارة للمعرفة والإبداع.
في الختام، مكتبة الحكمة ليست مجرد مكان لبيع الكتب، بل هي قصة نجاح ملهمة لرجل كرس حياته لخدمة العلم والثقافة. إنها دعوة للجميع لتقدير قيمة القراءة ودعم المبادرات التي تهدف إلى نشرها، ففي القراءة تكمن قوة الأمة وتقدمها. ندعوكم لزيارة المكتبة في شارع المتنبي، واستكشاف كنوزها، والمساهمة في دعم هذه الرسالة السامية.



