عادت صفقة استيراد الغاز من إسرائيل إلى مصر إلى دائرة الضوء مجددًا، مُثيرةً جدلاً واسعًا بين الاقتصاديين والمحللين السياسيين. فبعد المصادقة الرسمية عليها، فتحت هذه الصفقة الباب أمام نقاشات حول ما إذا كانت مجرد قرار اقتصادي يتماشى مع العرض والطلب في سوق الطاقة، أم أنها تحمل في طياتها أبعادًا سياسية وإقليمية ودولية أكثر تعقيدًا. وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الاتفاق بأنه “أكبر صفقة غاز” في تاريخ بلاده، مما زاد من حدة التساؤلات حول المكاسب الحقيقية للطرفين، والمستفيد الأكبر من هذه الخطوة الاستراتيجية.

صفقة الغاز المصرية الإسرائيلية: جدل متجدد وأبعاد متعددة

تُعد هذه الصفقة من أبرز اتفاقيات الطاقة الموقعة بين مصر وإسرائيل، حيث تهدف إلى استيراد مصر للغاز الطبيعي من إسرائيل عبر خطوط الأنابيب، بهدف تلبية جزء من احتياجاتها المتزايدة من الطاقة. بين التأكيدات الرسمية المصرية التي تؤكد على الطابع التجاري الخالص للصفقة، وتحليلات الخبراء التي لا ترى انفصالًا كاملًا بين الاقتصاد والسياسة، تبرز الحاجة إلى فهم شامل لجميع جوانب هذه الاتفاقية.

الموقف الرسمي المصري: قرار اقتصادي بحت

في محاولة لاحتواء الجدل الدائر، أكد رئيس هيئة الاستعلامات المصرية ضياء رشوان أن صفقة استيراد الغاز من إسرائيل تندرج ضمن نطاق الصفقات الاقتصادية العادية، ولا تحمل أي أهداف سياسية خفية. وأوضح رشوان أن الأطراف المتعاقدة هي شركات تجارية خاصة، مثل شركة “شيفرون” الأمريكية، إلى جانب الشركات المصرية المتخصصة في استقبال الغاز ونقله.

وأضاف أن هذه الاتفاقية تخدم مصلحة استراتيجية لمصر، من خلال تعزيز مكانتها كمركز إقليمي لتداول الغاز في منطقة الشرق الأوسط، وذلك بفضل البنية التحتية المتطورة التي تمتلكها، ومحطات الإسالة القادرة على تلبية احتياجات الأسواق المحلية والإقليمية والدولية.

نظرة اقتصادية على الصفقة: تكلفة الإنقاذ

يعتبر الخبير الاقتصادي محمد فؤاد أن الصفقة في جوهرها قرار اقتصادي خالص. ويوضح أن سوق الغاز يتكون من ثلاثة أنواع رئيسية من حيث التكلفة: الغاز المحلي (حوالي 4 دولارات)، غاز الخطوط (حوالي 7.60 دولارات)، والغاز المسال (حوالي 13 دولارًا).

ويشير فؤاد إلى أن استيراد الغاز عبر خطوط الأنابيب من إسرائيل أكثر اقتصادا من البدائل، حيث يوفر لمصر ما يقرب من مليار متر مكعب من الغاز، يغطي حوالي 40٪ من الاستهلاك المحلي. ويقدر أن تكلفة تغطية هذا النقص من خلال مصادر أخرى ستصل إلى ما بين 3 و 3.2 مليار دولار سنويًا، إضافة إلى تكاليف التشغيل.

هل تخفي الصفقة ضغوطًا أمريكية؟

على الجانب الآخر، يرى السفير معتز أحمدين، الدبلوماسي المخضرم، أن الفصل التام بين الاقتصاد والسياسة أمر غير واقعي. ويعتقد أن موافقة إسرائيل على إتمام الصفقة جاءت استجابة لضغوط أمريكية، تهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية للرئيس السابق دونالد ترامب وعائلته، الذين يمتلكون حصة كبيرة في شركة شيفرون، المستثمر الرئيسي في حقل ليفياثان الغازي.

ويضيف أحمدين أن الصفقة تخدم أيضًا مساعي واشنطن لدمج إسرائيل في المنطقة، والترويج لذلك كإنجاز لإدارة ترامب. ويحذر من أن المكاسب الاقتصادية المعلنة قد تكون مرتبطة باستمرار الطلب الأوروبي على الغاز، في ظل الحرب في أوكرانيا، وأن أي تسوية سياسية أو انخفاض في الأسعار العالمية قد يقلل من جدوى الصفقة.

المكاسب السياسية لإسرائيل وتساؤلات حول الشفافية

سياسيًا، يرى أحمدين أن الصفقة تعزز التقارب المصري الأمريكي، لكنها لا تحقق مكاسب سياسية كبيرة لمصر في علاقتها مع إسرائيل. بل على العكس، يرى أن إسرائيل هي المستفيدة الأكبر، حيث تستخدم الصفقة كدليل على اندماجها الإقليمي وتخفيف عزلتها.

ويشير إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي سيستغل هذه الصفقة في حملته الانتخابية القادمة، مؤكدًا أن تل أبيب استغلت الظروف السياسية الراهنة لتحقيق أقصى قدر من المكاسب. ويؤكد أن القرار المصري كان محسوبًا اقتصاديًا وسياسيًا، لكنه يثير تساؤلات حول دقة الحسابات الاقتصادية، نظرًا لتقلبات سوق الغاز العالمية، والمبالغ الطائلة الملتزم بها، والتي تتجاوز ملياري دولار سنويًا.

مصر مركز إقليمي للطاقة: طموحات وتحديات

يؤكد الدكتور حسام عرفات، أستاذ البترول والتعدين، أن صفقة الغاز تحمل أبعادًا سياسية واقتصادية متلازمة. ويتساءل عن سبب إيقاف إسرائيل للصفقة في أغسطس الماضي، رغم الانتهاء من الاتفاقات المبدئية قبل ذلك.

ويوضح عرفات أن التأخير الإسرائيلي كان بمثابة ضغط سياسي على مصر، على خلفية التطورات المتعلقة بالقضية الفلسطينية وقمة شرم الشيخ. ويشير إلى أن ضغوط الشركاء والولايات المتحدة هي التي أعادت الصفقة إلى مسارها.

ويؤكد عرفات أن إسرائيل هي المستفيد الأكبر من الصفقة، حيث لا تملك خيارات متعددة لتصدير غازها سوى مصر والأردن، بسبب اعتمادها على شبكة الأنابيب. بينما تمتلك مصر بنية تحتية متطورة للإسالة، مما يمنحها ميزة تنافسية.

الخلاصة: توازن المصالح ومستقبل الطاقة في مصر

بين طموحات مصر في أن تصبح مركزًا إقليميًا للطاقة، والتحديات السياسية المرتبطة بمصدر هذا الغاز، تبقى صفقة استيراد الغاز من إسرائيل قضية معقدة ومثيرة للجدل. هل ستنجح الحسابات الاقتصادية في تحييد الضغوط السياسية؟ أم أن تقلبات أسواق الطاقة العالمية ستفرض واقعًا جديدًا؟ الإجابة على هذه التساؤلات تتطلب متابعة دقيقة لتطورات الأوضاع الإقليمية والدولية، وتقييمًا مستمرًا لجدوى الصفقة على المدى الطويل. من الضروري أن تضمن مصر شفافية كاملة في تنفيذ الصفقة، وحماية مصالحها الوطنية، واستكشاف بدائل أخرى لتنويع مصادر الطاقة، بما في ذلك الاستثمار في الطاقة المتجددة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version