في ختام مفاوضات مطولة، أُعلِن عن اتفاق لتصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر، لكن هل يمثل هذا الاتفاق حقًا “إنجازًا تاريخيًا” كما يُصوَّر رسميًا؟ أم أنه قد يتحول إلى عبء على المستهلك الإسرائيلي؟ التحليل الذي نشرته صحيفة كالكاليست الاقتصادية الإسرائيلية يطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل قطاع الطاقة في إسرائيل، ويضع في صلب الإشكالية سؤالًا واحدًا حاسمًا: هل ستنشأ منافسة حقيقية في سوق الغاز الإسرائيلي؟
صفقات الغاز الإسرائيلية: بين الطموحات والتحديات
لا يكمن مصير صفقة تصدير الغاز إلى مصر في التصريحات الاحتفالية، بل في هيكل السوق الداخلي. كالكاليست ترى أن الاتفاق قد لا يكون سوى “صفقة معقولة” في أحسن الأحوال، وأنه قد يتحول إلى “بكاء لأجيال” إذا استمر الوضع الراهن دون تغيير. ويتجلى هذا الخطر في حقيقة أن قطاع الطاقة الإسرائيلي يعاني من تركيز شديد، يهدد بإلغاء أي فوائد محتملة من الاتفاق.
هيمنة الشركات وغياب المنافسة
تكمن القصة الكبرى في غياب المنافسة الحقيقية. تسيطر شركة شيفرون الأميركية على نسبة تقارب 90% من احتياطيات الغاز في إسرائيل، من خلال ملكيتها لحصص كبيرة في حقلي ليفياثان وتمار، بالإضافة إلى سيطرتها التشغيلية. هذا الوضع، الذي وصفته مفوضة المنافسة ميخال كوهين بأنه “إشكالي”، يتطلب تدخلاً عاجلاً لضمان دخول لاعبين جدد إلى السوق.
لكن الواقع يشير إلى اتجاه معاكس، حيث يتقلص دور حقل كاريش الذي كان يمثل في السابق عنصر منافسة محدودًا. هذا التآكل في الخيارات أمام السوق يزيد من خطر الاحتكار، ويؤثر سلبًا على المستهلكين. قد يكون تصدير الغاز ضروريًا، لكن ليس على حساب المصلحة الوطنية.
أمن الطاقة والأسعار: وعود أم حقائق؟
تركزت المفاوضات بين الحكومة الإسرائيلية وشركات الغاز حول ثلاثة محاور رئيسية: أمن الطاقة، والأسعار، والمنافسة. أمن الطاقة، بحسب كالكاليست، لم يكن محورًا تفاوضيًا حقيقيًا، فمن البديهي عدم تصدير الغاز في حال وجود أزمة داخلية تهدد الإمدادات. التعهد بعدم وجود نقص في الغاز طالما توفرت قدرة إنتاج كافية ليس إنجازًا تفاوضيًا بقدر ما هو ضرورة.
أما ملف الأسعار، فهو الأكثر حساسية. فقد تم تثبيت سعر قدره 4.7 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، مرتبط بآلية ربط مع تعرفة الكهرباء المنزلية التي ترتفع سنويًا. هذا يعني أن المستهلك الإسرائيلي سيدفع أكثر منذ اليوم الأول، وأن السعر سيتصاعد بشكل تلقائي مع مرور الوقت. على الرغم من الترويج لفكرة “استقرار الأسعار” من قبل مؤيدي الاتفاق، إلا أن كالكاليست ترى أن هذا الاستقرار يأتي على حساب المستهلك في سوق طاقة عالمية متقلبة بطبيعتها. أسعار الغاز هي العامل الأهم الذي سيحدد قيمة الصفقة على المدى الطويل.
الحل يكمن في فائض العرض
تقترح كالكاليست أن الحل الوحيد لخلق منافسة حقيقية يكمن في فرض “فائض عرض” داخل السوق المحلية. فبدلًا من تقييد التصدير، يجب إجبار المنتجين على ترك كميات من الغاز تتجاوز حاجة السوق، مما يضطرهم إلى التنافس على بيعها ويؤدي إلى خفض الأسعار. هذا الاقتراح، الذي قدمته وزارة المالية، أثار غضب شركات الغاز، لكنه -وفق كالكاليست- يمثل السبيل الوحيد لضمان وجود منافسة فعلية.
اتفاق مثير للجدل حتى عام 2032
ينص الاتفاق الحالي بشكل صريح على غياب المنافسة حتى عام 2032، أي أن الدولة لن تتمكن من التدخل بناءً على مبدأ المنافسة لمدة سبع سنوات قادمة. هذا ما تعتبره كالكاليست “تنازلًا واضحًا” كان من الأفضل تجنبه.
على الرغم من أن غياب المنافسة قد لا يكون كارثيًا في المدى القريب، نظرًا لعدم توقع توقيع عقود جديدة كبيرة حتى عام 2030، إلا أن محطات الكهرباء الجديدة ستكون الخاسر الأكبر، حيث ستضطر إلى التفاوض على الأسعار مع احتكار واحد. هذا الاحتكار قد يؤدي إلى ارتفاع تكلفة إنتاج الكهرباء، وبالتالي إلى ارتفاع أسعارها على المستهلكين.
الضغط الأميركي: العامل الحاسم
تكشف كالكاليست أن استمرار المفاوضات كان سيخدم مصلحة الدولة، لكن “ضغطًا مباشرًا قادمًا من واشنطن” أوقف هذا المسار. هذا الضغط مارسه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الطاقة إيلي كوهين، استجابةً لرغبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في إتمام الاتفاق.
تعدد كالكاليست دوافع ترامب، من حماية مصالح شركات النفط الأميركية (خاصة شيفرون)، إلى دعم مصر التي تعاني أزمة طاقة حادة، وتقليص الاعتماد على الغاز الروسي، وتعزيز النفوذ الأميركي في سوق الطاقة الإقليمي.
الخلاصة: مستقبل قطاع الغاز في مهب الريح
إذا لم تفرض لجنة دايان آلية فائض العرض، فإن الاتفاق الموقع قد يتحول من “إنجاز تاريخي” إلى عبء طويل الأمد يدفع ثمنه المستهلكون الإسرائيليون. في هذه الحالة، ستظل المنافسة غائبة، وستستمر أسعار الغاز في الارتفاع، وسيظل القرار السياسي أسيرًا للضغوط الخارجية.
من الضروري إجراء تقييم شامل للاتفاق، مع التركيز على حماية مصالح المستهلكين وتعزيز المنافسة في قطاع الطاقة. الأمر يتطلب رؤية استراتيجية واضحة، وشجاعة في مواجهة الضغوط الخارجية، والتزامًا حقيقيًا بتحقيق “إنجاز تاريخي” يعود بالنفع على جميع الإسرائيليين. هل ستنجح الحكومة الإسرائيلية في تحقيق هذا التوازن؟ الأيام القادمة ستكشف ذلك.


