في أعقاب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، المعروف بـ “بريكست”، تتصاعد الأصوات المطالبة بإعادة النظر في العلاقة مع أوروبا، وتحديداً بالعودة إلى الاتحاد الجمركي الأوروبي. هذه الدعوات لم تعد همساً في أروقة حزب العمال، بل باتت صرخات مدوية يتردد صداها في استطلاعات الرأي وتصريحات كبار المسؤولين، مما يضع رئيس الحزب كير ستارمر أمام تحدٍ حقيقي.
تصاعد الدعوات للعودة إلى الاتحاد الجمركي
لم تعد المطالبات بالعودة إلى الاتحاد الجمركي الأوروبي مقتصرة على جناح يساري داخل حزب العمال، بل باتت تحظى بدعم واسع من قيادات بارزة. وزير الصحة البريطاني، ويس ستريتينغ، انضم إلى نائب رئيس الوزراء ووزير العدل، ديفيد لامي، في الدعوة إلى استكشاف إمكانية إعادة الانضمام. هذا التوجه يعكس قناعة متزايدة بأن بريطانيا تعاني اقتصادياً بسبب الانفصال عن السوق الأوروبية الموحدة.
دعم شعبي ونخبوي متزايد
تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى دعم كبير لهذا التوجه، خاصة بين ناخبي حزب العمال. مؤسسة “يوجوف” بالاشتراك مع صحيفة التايمز كشفت عن أن 80% من الذين صوتوا لصالح حزب العمال في الانتخابات الأخيرة يؤيدون الانضمام إلى الاتحاد الجمركي الأوروبي، ويرغبون في قيادة جديدة تتفاوض مع الاتحاد حول اتفاقية تجارية جديدة. لم يقتصر هذا الدعم على ناخبي حزب العمال، بل امتد ليشمل مؤيدي أحزاب أخرى مثل الأحرار الديمقراطيين وحزب الخضر، مما يعزز من قوة هذا التيار السياسي.
الأبعاد الاقتصادية للعودة إلى الاتحاد الجمركي
يرى ستريتينغ أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان بمثابة “ضربة اقتصادية هائلة”، وأن العودة إلى الاتحاد الجمركي الأوروبي ستفتح آفاقاً جديدة للنمو الاقتصادي. ويؤكد على الفوائد الاقتصادية الكبيرة التي كانت تتمتع بها بريطانيا من خلال تواجدها في السوق الأوروبية الموحدة، والتي فقدتها بعد الانفصال.
هل تعني العودة حرية التنقل؟
من المهم الإشارة إلى أن ستريتينغ يوضح أن الانضمام إلى الاتحاد الجمركي الأوروبي لا يعني بالضرورة استعادة حرية انتقال العمالة، وهي قضية حساسة أدت إلى تصويت الكثيرين لصالح الخروج في الاستفتاء عام 2016. ومع ذلك، فإن إعادة الانضمام الكامل إلى الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك حرية التنقل، لا تزال قضية خلافية تثير انقساماً واسعاً في الرأي العام البريطاني. التركيز هنا ينصب على الجوانب التجارية والاقتصادية، مع محاولة إيجاد حلول لا تثير مخاوف تتعلق بالهجرة.
دوافع سياسية وراء الدعوات المتصاعدة
لا تخفى على أحد الأبعاد السياسية لهذه الدعوات. ففي ظل صعود حزب الإصلاح اليميني المتشدد، بقيادة نايجل فاراج، يرى ستريتينغ أن تبني موقف أكثر تأييداً لأوروبا يمكن أن يساعد حزب العمال في الفوز في الانتخابات القادمة. ويشدد على أن حزب العمال يجب أن يختلف عن حزب الإصلاح، وأن “يهزمه لا أن ينضم إليه”. هذا التوجه يتماشى مع تطلعات العديد من أعضاء وقواعد حزب العمال الذين يؤيدون تعزيز العلاقات مع أوروبا.
“إعادة الضبط” لا ترضي الجميع
على الرغم من أن كير ستارمر يتحدث عن “إعادة ضبط” العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، إلا أن هذا لا يرضي الكثيرين داخل حزبه. يرى هؤلاء أن هذه السياسة غير طموحة، وأن علاقات أعمق مع الاتحاد الأوروبي ستعطي دفعة أقوى للاقتصاد البريطاني. ما كان يتم تداوله في السابق بين نواب حزب العمال في أحاديث خاصة، بات الآن يظهر للعلن، مما يعكس تصاعد الرغبة في علاقات أوثق مع أوروبا. ديفيد لامي، على سبيل المثال، وصف العودة إلى الاتحاد الجمركي الأوروبي بأنها “أمر مرغوب فيه”، مشيراً إلى تجربة تركيا الناجحة في هذا الصدد.
موقف ستارمر والاتفاقيات التجارية
يواجه ستارمر ضغوطاً متزايدة لتغيير موقفه، لكنه حتى الآن يصر على أن الانضمام إلى الاتحاد الجمركي الأوروبي يمثل “خطاً أحمر واضحاً”، لأنه قد يؤدي إلى إلغاء الاتفاقيات التجارية التي أبرمتها حكومته مع دول مثل الهند والولايات المتحدة. ويعتبر ستارمر الاتفاق مع الولايات المتحدة “الأفضل بين الاتفاقات مع واشنطن”، ويؤكد على أهمية الحفاظ عليه. هذا الموقف يعكس حرصه على تحقيق مكاسب تجارية جديدة، ولكنه في الوقت نفسه يثير تساؤلات حول أولويات حكومته.
في الختام، تتصاعد الدعوات للعودة إلى الاتحاد الجمركي الأوروبي داخل حزب العمال البريطاني، مدفوعة باعتبارات اقتصادية وسياسية. في حين أن هذا التوجه يحظى بدعم شعبي ونخبوي متزايد، إلا أنه يواجه تحديات كبيرة، خاصة من جانب كير ستارمر الذي يفضل اتباع نهج أكثر حذراً. المستقبل وحده سيحدد ما إذا كانت بريطانيا ستعيد النظر في علاقتها مع أوروبا، وتعود إلى الاتحاد الجمركي الأوروبي أم لا. لمتابعة آخر التطورات حول هذا الموضوع، ندعوكم إلى زيارة موقعنا بانتظام.


