في خضم التحديات الاقتصادية العالمية، يبرز الدين الأمريكي كموضوع نقاش متزايد الأهمية. تقرير حديث نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” يقدم منظورًا فريدًا، يربط بين المخاطر التي تواجه الاقتصاد الأمريكي وتجارب الدول الأوروبية، مؤكدًا أن السياسة والعجز العام قد يقيدان قدرة الولايات المتحدة على اتخاذ قرارات اقتصادية حاسمة. هذا التحليل يكتسب أهمية خاصة في ظل تزايد المخاوف بشأن الاستدامة المالية للولايات المتحدة.

الدين الأمريكي: دروس من أوروبا

تشير الصحيفة إلى أن السياسة والديون لا يمتزجان جيدًا، وهو درس تعلمته بريطانيا وفرنسا مؤخرًا. ففي المملكة المتحدة، وجدت الحكومة نفسها أمام “ثالوث مستحيل”: إرضاء المقرضين، وكسب الناخبين، وتطبيق السياسات الاقتصادية الصحيحة. ونتيجة لذلك، تخلت الحكومة البريطانية عن وعود النمو وركزت على تهدئة أسواق السندات.

أما فرنسا، فتقف أمام تحدٍ مماثل، لكنه أكثر حدة، حيث تعاني من دين أعلى وعجز أكبر، مما يجعل زيادة الضرائب خيارًا محفوفًا بالمخاطر. هذه التجارب الأوروبية تقدم تحذيرًا مبكرًا للولايات المتحدة، حيث يرتفع الديون الحكومية بوتيرة مقلقة.

تحديات السياسة المالية في الولايات المتحدة

على الرغم من أن الولايات المتحدة لم تصل بعد إلى “لحظة الحقيقة”، إلا أن ملامح الأزمة بدأت في الظهور. فالدرع الذي يحمي الاقتصاد الأمريكي، وهو مكانة الدولار كعملة احتياط عالمية، بدأ في التصدع.

وقد شهدت الولايات المتحدة في أبريل الماضي ارتفاعًا مفاجئًا في عوائد سندات الخزانة، مما أثار مخاوف من “دوامة بيع ذاتية” مشابهة لتلك التي حدثت في بريطانيا. كما اضطر الاحتياطي الفيدرالي في عام 2020 إلى شراء تريليونات الدولارات من السندات لمنع انهيار السوق خلال فترة الإغلاقات.

مقارنة بين أمريكا وبريطانيا: أرقام مقلقة

تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن دين بريطانيا سيصل إلى 95% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما سيقترب دين أمريكا من 100% مع عجز يتجاوز 7% من الناتج – وهو أحد أعلى المعدلات في العالم المتقدم.

ما ينقذ التمويل الأمريكي حاليًا هو مكانة الدولار كعملة عالمية، لكن هذا الوضع يواجه أربعة تهديدات متداخلة: اتساع المعروض النقدي، التحول التدريجي نحو اليوان، زيادة احتياطيات الذهب لدى دول مثل الصين وروسيا وتركيا، وتنامي تململ الحلفاء من استخدام واشنطن للأدوات المالية كسلاح سياسي. هذه العوامل، على الرغم من أنها لم تؤثر بشكل حاسم على الدولار حتى الآن، إلا أنها تسبب له أضرارًا متراكمة.

هل يمكن لأمريكا تجنب أزمة الديون؟

ترى “وول ستريت جورنال” أن المفارقة تكمن في أن أمريكا تمتلك مساحة مالية أكبر لعلاج المشكلة مقارنة بأوروبا. فهي تمتلك أدنى ضرائب كنسبة من الناتج بين دول مجموعة السبع (30%)، مما يعني أن زيادة الضرائب قد تؤثر على النمو بدرجة أقل.

ومع ذلك، فإن خفض الإنفاق يظل معقدًا سياسيًا، كما أظهرت تجربة وزارة “كفاءة الحكومة” التي أنشأها إيلون ماسك. وتستحضر الصحيفة مقولة جان كلود يونكر الشهيرة: “نحن جميعًا نعرف ما يجب فعله، لكن لا نعرف كيف يُعاد انتخابنا بعد أن نفعله”.

مستقبل الدولار والتمويل الأمريكي

الخطر الأكبر، بحسب التقرير، هو اللحظة التي “تستشعر فيها الأسواق بدء تغيّر ما، فترفع العوائد استباقا لانسحاب المشترين الأجانب”. هذا السيناريو قد يؤدي إلى أزمة تمويل حكومي حادة.

السياسيون الأمريكيون “ليس واضحًا أنهم يعرفون ما يجب فعله أصلًا”، والحفاظ على ثقة سوق السندات مع السعي لإعادة الانتخاب في الوقت نفسه “سيكون مهمة شبه مستحيلة”. أمريكا تستطيع الاتكاء على الدولار.. لكن ليس إلى الأبد.

الخلاصة: تحديات مستقبلية تتطلب حلولًا جريئة

يشير تحليل “وول ستريت جورنال” إلى أن الاستدامة المالية للولايات المتحدة تعتمد على قدرتها على معالجة مشكلة الديون بشكل فعال. الدروس المستفادة من التجارب الأوروبية تؤكد على أهمية اتخاذ قرارات اقتصادية صعبة، حتى لو كانت غير شعبية.

إن تجاهل هذه التحذيرات قد يؤدي إلى تآكل ثقة المستثمرين في الدولار، مما يهدد الاستقرار الاقتصادي العالمي. من الضروري أن يبدأ صناع القرار الأمريكيون في وضع خطة شاملة لمعالجة الدين العام، مع الأخذ في الاعتبار التحديات السياسية والاقتصادية المعقدة التي تواجههم. هل ستتمكن الولايات المتحدة من تجنب مصير مماثل لبريطانيا وفرنسا؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه التقرير، والذي يستحق منا جميعًا التفكير والتأمل.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version