بعد حصار استمر لأكثر من عام ونصف العام، وجد سكان الفاشر شمال إقليم دارفور السوداني أنفسهم أمام موجة عنف غير مسبوقة عقب سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة في 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وخلال أيام قليلة، ظهرت شهادات تُوثق ما عاشه المدنيون من انتهاكات جسيمة، في مدينة تُعد من الأكثر تنوعا في دارفور، مما أعاد إلى الأذهان إرث العنف العرقي الذي عاشه الإقليم قبل 20 عاما، لكنه يحدث اليوم بأدوات أكثر فتكا وبتوثيق أكبر مما كان متاحا. ومع تدفق روايات الناجين وتأكيد الأمم المتحدة وقوع مجازر وعنف جنسي، تحوّلت الفاشر إلى “مسرح جريمة” وصارت المدينة مركز اهتمام دولي وأممي واسع، واختبارا جديدا لمسؤولية المجتمع الدولي تجاه المدنيين في السودان الذي يعيش صراعا عنيفا منذ أبريل/نيسان 2023. هذا المقال يسلط الضوء على الأسباب التي جعلت الفاشر محط أنظار العالم، وطبيعة الانتهاكات التي وقعت، وكيف انعكس ذلك على المواقف الدولية.
كيف دفعت الفاشر الملف السوداني إلى صدارة الاهتمام الدولي؟
برزت الفاشر في مقدمة المشهد الدولي بصفتها آخر مدينة كبرى خارج سيطرة قوات الدعم السريع في دارفور، مما جعل سقوطها نهاية أكتوبر/تشرين الأول محطّة مفصلية تعني عمليا استكمال السيطرة على المراكز الحضرية بالإقليم وتغييرا جذريا في خريطة الحرب غرب السودان. لم يكن السقوط العسكري بحد ذاته هو العامل الحاسم، بل الطريقة التي سقطت بها المدينة، وما تلا ذلك من انتهاكات واسعة ضد المدنيين.
مع توالي الشهادات عن الإعدامات الميدانية، والعنف الجنسي، والنهب والخطف، واستهداف عمال الإغاثة، وفي ظل الانقطاع شبه الكامل للاتصالات، انتقل ملف الفاشر من كونه تطورا ميدانيا إلى قضية إنسانية وحقوقية دولية تُبحث في مجلس حقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية.
إضافة إلى ذلك، كانت المدينة تعيش حصارا قاسيا منذ 2024، تراجع خلاله وصول الغذاء والدواء وتكررت التحذيرات الأممية من المجاعة. لذلك، شكل سقوطها، وما صاحبه من استهداف لمدنيين جياع ومحاصرين، سببا دفع الأمم المتحدة للتأكيد على أنها تتعامل مع الفاشر باعتبارها “مسرح جريمة” يستدعي تحركا دوليا عاجلا، لا مجرد محطة عسكرية في حرب ممتدة. هذا الوضع الإنساني المأساوي زاد من الضغط الدولي للتدخل.
ما طبيعة الانتهاكات بالفاشر وعلى طرق النزوح؟
بعد سيطرة الدعم السريع على الفاشر، تواترت شهادات من ناجين ونازحين تصف نمطا من الانتهاكات يمتد من داخل المدينة إلى الطرق المحيطة بها. وصف توم فليتشر وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ما جرى بأنه “فظائع جماعية” شملت إعدامات واحتجازا وعنفا جنسيا “على نطاق مروّع”.
داخل المدينة، أكدت معظم الشهادات اقتحام أحياء سكنية، وإطلاق النار على مدنيين حاولوا الفرار، وعمليات إعدام ميداني، ونهبا منظما للمنازل والمتاجر تلاه حرق لأجزاء من الأحياء. أشارت تقارير طبية إلى أن مرافق صحية تعرضت لاعتداءات أو تعطيل شبه كامل، في سياق انهيار متواصل للبنية الصحية منذ فترة الحصار. وكشفت صور الأقمار الصناعية التي استندت إليها منظمات حقوقية روايات السكان عن تغيّر كبير في ملامح أحياء وأسواق بعد الهجوم، بما يرجح وقوع هدم وحرق واسع النطاق.
أما خارج الفاشر، خصوصا على الطريق الطويل الذي سلكه نازحون إلى مخيم الدبّة شمالا أو إلى طويلة غربا، برزت صورة أخرى للعنف، إذ تحدث نازحون عن مسارات فرار امتدت لآلاف الكيلومترات في غياب الماء والغذاء. أكد الناجون أن الجثث تناثرت على جانبي طريق الفرار، كما انتزعت نقاط تفتيش الدعم السريع الأموال والهواتف والذهب، وتعرضت النساء لتفتيش مهين ومحاولات اعتداء أو اغتصاب. هذه الظروف القاسية زادت من معاناة النازحين.
توثيق حالات الاغتصاب والعنف الجنسي
أعلنت شبكة أطباء السودان توثيق 32 حالة اغتصاب لفتيات من الفاشر ومحيطها وصلن إلى منطقة طويلة، بعضها وقع داخل المدينة عقب الاجتياح وبعضها الآخر على طرق الهروب، غير أن التقديرات تشير إلى أن أعداد النساء اللواتي تعرضن للاعتداء الجنسي أكبر من ذلك بكثير. هذه الجرائم تمثل انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان.
وبحسب المجلس النرويجي لشؤون اللاجئين، فرّ أكثر من 80 ألف شخص من أصل 260 ألف مدني من الفاشر بعد سيطرة الدعم السريع عليها، لكن حوالي 7 آلاف فقط من الفارين وصلوا إلى مخيم طويلة على بُعد 60 كيلومترا فقط. ولا يزال مصير عشرات الآلاف الآخرين الذين فروا مجهولا، كما أن مصير من بقوا في الفاشر مجهول أيضا.
أبرز الانتهاكات التي وثقت في الفاشر
بالتوازي مع ذلك، وثقت مصادر محلية وحقوقية وصور أقمار صناعية ارتكاب قوات الدعم السريع مجزرة كبيرة في المستشفى السعودي بالفاشر يوم 28 من الشهر الماضي، أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 460 شخصا من المرضى والمرافقين، ودفنهم لاحقا في مقبرة جماعية، إضافة إلى خطف عدد من الكوادر الطبية.
أفادت الأمم المتحدة بأن الهجوم الدموي على المستشفى ترك آلاف الحوامل في الفاشر بلا أي رعاية، واضطرت كثيرات منهنّ للولادة في الشوارع والملاجئ المؤقتة. كما وثّق مكتب الأمم المتحدة أيضا هجمات استهدفت جامعا كان يؤوي نازحين، مما خلّف ما لا يقل عن 20 قتيلا وعشرات الجرحى، في انتهاك مزدوج باستهداف مكان عبادة من جهة، ومأوى للمدنيين الفارين من القتال من جهة أخرى.
دور وسائل التواصل الاجتماعي في لفت انتباه العالم
عبر وسائل التواصل الاجتماعي، انتشرت صور ومقاطع فيديو توثق الجرائم -التي وقعت في الفاشر داخل المدينة أو على الطرق المحيطة، بعضها نشره أفراد يقدمون أنفسهم عناصر في الدعم السريع- تظهر إطلاق نار على مدنيين، وتفاخرا بالسيطرة على أحياء وبما جرى فيها من قتل وسرقات.
إلى جانب ذلك، نقل نازحون وناشطون محليون عبر وسائل التواصل الاجتماعي مشاهد الهروب الجماعي، والجثث المتناثرة على الطرقات. منح هذا التوثيق اللحظي المنظمات الحقوقية مادة خام للتحقق منها وتحويلها إلى تقارير قانونية، خصوصا عندما جرى ربطها بصور الأقمار الصناعية التي أكدت وقوع الحوادث. كما لعب الناشطون السودانيون دورا في توسيع دائرة اهتمام الرأي العام الدولي، عبر حملات رقمية أعادت توجيه الإعلام والنقاشات السياسية والحقوقية دوليا نحو الفاشر.
الأبعاد العرقية للانتهاكات في الفاشر
ربطت تصريحات أممية الانتهاكات التي وقعت في الفاشر، التي تضم قبائل عربية وأفريقية، بنمط أوسع من العنف العرقي في دارفور منذ 2023، خاصة ضد جماعات مثل المساليت، الذين تتهم منظمات دولية قوات الدعم السريع بقتل ما يصل إلى 15 ألفا منهم في الجنينة وحدها خلال 2023. كما ظهر البعد العرقي في شهادات تحدثت عن استهداف مجموعات بعينها، وفي تحذيرات خبراء الأمم المتحدة من خطر حقيقي ومتزايد لوقوع إبادة جماعية، بما يعيد إنتاج ما شهدته دارفور قبل 20 عاما من قتل للمدنيين على أساس هويتهم. حذر الاتحاد الأفريقي من أن استهداف المدنيين في الفاشر يتخطى إطار المواجهة العسكرية، ويميل بوضوح إلى نمط “عنف موجّه ضد مجموعات سكانية محددة” مطالبا بتحقيق مستقل وعاجل.
انعكاس الاهتمام الأممي على مواقف الدول
إلى جانب البيانات الصادرة عن الأمم المتحدة، اتجهت دول غربية إلى استخدام لغة أكثر صرامة في توصيف ما جرى في الفاشر، معتبرة أن الهجمات على المدنيين قد تشكل جرائم حرب. في نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، وقّعت أكثر من 20 دولة غربية، بينها المملكة المتحدة وألمانيا والسويد وهولندا وكندا وأستراليا وإسبانيا، بيانا مشتركا ندد بانتهاكات قوات الدعم السريع داعيا إلى وقف فوري للهجمات وضمان وصول المساعدات الإنسانية. يعكس هذا التوافق الدبلوماسي الواسع انتقال الملف من تحذيرات أممية إلى إجماع دولي سياسي يُحمّل أطراف النزاع مسؤولية مباشرة، ويضع الفاشر في صدارة أولويات النقاش حول مستقبل السودان وضرورة المساءلة الدولية. إن الوضع في الفاشر يتطلب تحركا دوليا عاجلا لحماية المدنيين وضمان وصول المساعدات الإنسانية.



