في تقاطع على أطراف المواصي في خان يونس، كان مطعم “فيش فريش” Fish Fresh يمثل ملاذاً للعائلات الغزية، مكاناً ينسون فيه لبعض الساعات قسوة الحصار. لكن هذا المطعم، الذي تحول إلى مجرد ذكرى، أصبح الآن نقطة انطلاق سرية للراغبين في مغادرة القطاع، ليتحول الحلم بالاستمتاع بسمك غزة الطازج إلى أمل ضئيل بالنجاة من حرب لا ترحم. التحقيق الاستقصائي للجزيرة يكشف خيوط شبكة معقدة تقف وراء هذه الهجرة القسرية، والتي يصفها البعض بـ “التهجير الناعم”.
“فيش فريش”.. من مطعم إلى محطة خروج سرية
لم تعد العائلات تتوافد على “فيش فريش” لتناول الطعام، بل للهروب. في الثالثة صباحاً، تتجمع أعداد كبيرة من الفلسطينيين، مثله مثل بشير القادم من رفح، لا يملكون سوى ما يرتدون وهواتفهم المحمولة. الوعد بالخروج من جحيم الحرب يأتي عبر تطبيق “واتس آب” من كيان مجهول يطلق على نفسه اسم “المجد أوروبا”. هذا الكيان يطرح حلاً يبدو مستحيلاً، طريقاً للخروج يوفر ما عجزت عن تحقيقه المنظمات الدولية والحكومات، محاولاتٌ لم تُنجح في توفير أي بصيص أمل.
بشير لم يكن يسعى للتهجير، بل للنجاة. أخبروه بأنه لن يُجبر على عدم العودة، وأن رحيله ليس نهائياً. دفعت عائلته، مثل غيرها، أكثر من 4 آلاف دولار مقابل مقعد في الحافلة والطائرة، أملاً بغد أفضل. لكن رحلته، التي تبدو طريقاً للنجاة، سرعان ما تبين أنها حلقة في سلسلة مؤامرة أكبر.
“المجد أوروبا” و”الهجرة الطوعية”.. واجهة لخطة تهجير ممنهجة
التحقيق الاستقصائي للجزيرة، والذي يحمل عنوان “من يقف وراء التهجير الناعم للغزيين؟”، يكشف تفاصيل هذه العمليات السرية والمنظمة، التي شملت حتى الآن مئات الفلسطينيين المتوجهين إلى دول في أفريقيا وآسيا. يكشف التحقيق عن شبكة معقدة تتورط فيها جمعية “المجد” و “مكتب الهجرة الطوعية” الإسرائيلي الذي أنشئ حديثاً. هذا “المكتب” ليس سوى واجهة لإخفاء عمليات التهجير القسري التي تمارسها إسرائيل.
“الصهيوني الطيب” في وزارة الدفاع الإسرائيلية
وراء هذه العمليات، يقف العقيد المتقاعد يعاكوف بليتشتاين، المعروف باسم “كوبي”، والذي عينته وزارة الدفاع الإسرائيلية مسؤولاً عن “مديرية الهجرة الطوعية”. مهمة بليتشتاين ليست إنسانية، بل هدفها حل “المعضلة الديمغرافية” التي يمثلها الفلسطينيون لإسرائيل. من مكتبه المكيف في تل أبيب، يشرف بليتشتاين على تحويل التهجير القسري إلى “خدمة مدفوعة الأجر”، حيث يدفع الفلسطيني الضحية ثمن ترحيله، بينما يعتبره الجلاد “مساعدته” على النجاة.
بليتشتاين لا يرى نفسه مجرماً، بل مهندساً يعيد تشكيل الواقع الفلسطيني، مستغلاً اليأس الذي زرعه الاحتلال لدفع الفلسطينيين نحو “الخيار الوحيد”: الرحيل بلا عودة. تمتد يده إلى ملفات مئات الفلسطينيين، يهمس باسمائهم كأرقام في مخطط تهجير مُحكم.
رحلات سرية وشبهات تهجير قسري
تتعاقد مديرية الهجرة الطوعية مع شركات طيران مشبوهة، مثل “فلاي ليلي” الرومانية و “فلاي يو”، لتنفيذ عمليات النقل. الرحلات غالباً ما تكون سرية، مع تغيير مسار الطيران لإخفاء الوجهة النهائية. في إحدى الحالات، حوصرت طائرة تقل 153 فلسطينياً في مطار جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا لمدة 12 ساعة، بسبب عدم وجود تأشيرات أو وثائق سفر رسمية. هذه الحادثة كشفت عن الخداع الذي يكمن في عملية التهجير الممنهجة هذه.
تلقى الفلسطينيون تعليمات عبر “واتس آب” بالتوجه إلى نقاط تجمع سرية، ثم إلى معبر كرم أبو سالم، حيث يتم تجريدهم من ممتلكاتهم وأوراقهم الثبوتية. يختفي ختم الخروج من جوازات السفر، في محاولة لإخفاء دليل مرورهم عبر إسرائيل، وحرمانهم من أي حق مستقبلي في العودة.
دور مشبوه لمنظمات ووسطاء فلسطينيين
لا يقتصر الأمر على الدور الإسرائيلي، بل يكشف التحقيق عن تورط أفراد فلسطينيين في تسهيل عمليات الهجرة. مؤيد صيدم، وهو من سكان غزة، يعمل كمنسق رئيسي للرحلات من مقر إقامته في إندونيسيا. صيدم يبرر عمله بأنه “مساعدة إنسانية”، لكنه في الواقع يعمل بتنسيق كامل مع الجيش الإسرائيلي، ويستغل يأس الفلسطينيين لتحقيق مكاسب شخصية.
“المجد أوروبا”.. واجهة رقمية مُضللة
تحليل الموقع الإلكتروني لـ “المجد أوروبا” يكشف عن كمية هائلة من التضليل. الصور المستخدمة غالباً ما تكون مولدة بالذكاء الاصطناعي أو مسروقة من مصادر أخرى. المعلومات المتعلقة بالمنظمة غير دقيقة، ولا توجد أي بيانات حقيقية عن مجلس إدارتها أو مؤسسيها. حتى أسماء الموظفين المذكورين على الموقع تبين أنها وهمية. هذا الكيان الرقمي ليس سوى واجهة لإخفاء الأيدي الحقيقية التي تقف وراء عمليات الهجرة القسرية.
النكبة في نسختها الجديدة: تهجير ممول من الضحايا
التحقيق يخلص إلى أن ما يحدث ليس مجرد “هجرة طوعية”، بل نكبة جديدة تتكرر، ولكن بصورة مختلفة. هذه النكبة نيوليبرالية، مخصخصة، وممولة بالكامل من قبل الضحايا أنفسهم. الفلسطينيون يبيعون ممتلكاتهم وأراضيهم لتمويل رحلة الهروب، بينما تستفيد إسرائيل من هذه الأموال لتعزيز سيطرتها على الأرض.
إن استخدام مصطلح “طوعية” هو تلاعب باللغة، يهدف إلى التهرب من المسؤولية القانونية والأخلاقية. ففي ظل الظروف القاسية التي يعيشها الفلسطينيون في غزة، لا يمكن اعتبار الرحيل “طوعياً” بالمعنى الحقيقي للكلمة.
هل ستنجح إسرائيل في تحقيق هدفها؟
الهدف النهائي لإسرائيل هو إفراغ قطاع غزة من سكانه، أو على الأقل تقليل عددهم بشكل كبير. هذا الهدف يتجسد في رؤية المتطرف اليميني بتسلئيل سموتريتش، الذي يرى في التهجير “الحل الإنساني الصحيح”.
التحقيق يكشف أن إسرائيل تسعى لتحقيق هذا الهدف من خلال التقطير المستمر للسكان، عبر رحلات سرية ومنظمات وهمية. السؤال هو: هل ستنجح إسرائيل في تحقيق هدفها؟ وهل سيتمكن الفلسطينيون من الحفاظ على حقهم في العودة إلى أرضهم؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.


