في قرار يثير جدلاً واسعاً ويُعمّق الخلافات، أعلنت السلطات الجورجية عن منع مواطنيها المقيمين في الخارج من الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات. هذا الإجراء، الذي يأتي في ظل تصاعد التوترات مع الاتحاد الأوروبي، يلقي بظلاله على مستقبل العلاقات بين الطرفين وعلى الوضع السياسي الداخلي في جورجيا. وتُشير هذه الخطوة إلى تحول محتمل في السياسة الخارجية الجورجية وتأثيره على مسار العلاقات بين جورجيا والاتحاد الأوروبي.

تبريرات الحكومة الجورجية للقرار

برر رئيس البرلمان الجورجي، شالفا بابواشفيليان، هذا القرار بحماية الناخبين الجورجيين من “الضغوط الخارجية والتضليل الإعلامي”. وادعى أن الانتخابات البرلمانية الأخيرة كشفت عن حجم التدخل الخارجي وتأثيره على الرأي العام الجورجي، مؤكداً على ضرورة أن يتمتع المواطنون بحرية اختيار حقيقية بعيداً عن أي تأثيرات خارجية. ويؤكد المسؤولون الجورجيون أن هذا الإجراء ليس خروجاً عن المعايير الدولية، مشيرين إلى وجود قوانين مماثلة في دول مثل أرمينيا وأيرلندا ومالطا.

وبحسب وجهة نظر الحكومة، فإن السماح بالتصويت من الخارج يعرض الجورجيين المقيمين في الخارج لمعلومات خاطئة ومضللة حول الأوضاع في البلاد، مما قد يؤثر على نتائج الانتخابات. هذا التبرير أثار شكوكاً واسعة لدى المعارضة والجهات الدولية، التي ترى فيه محاولة لتقويض الديمقراطية والتأثير على المشاركة الانتخابية.

تصعيد التوتر مع الاتحاد الأوروبي

يأتي هذا القرار في سياق تدهور ملحوظ في العلاقات بين جورجيا والاتحاد الأوروبي. فقد اتهم الاتحاد الأوروبي الحكومة الجورجية بـ “تراجع ديمقراطي خطير” وتجميد مسار انضمام البلاد، الذي حصلت عليه كمرشح في ديسمبر 2023. وتشمل الاتهامات تعليق عمل مكتب مكافحة الفساد الذي أنشئ بتوصية من الاتحاد الأوروبي، وتمرير قوانين تُقيّد حرية التعبير والتجمع.

الخطوات الأخيرة للسلطات الجورجية، وعلى رأسها منع التصويت من الخارج، نفذت بعد فترة من بدء الأزمة مع الاتحاد الأوروبي، بعد الانتخابات البرلمانية. ويعتبر البعض هذا الإجراء بمثابة رد فعل على الانتقادات الأوروبية والقرارات المتخذة ضد تبليسي. يبدو أن الحكومة الجورجية تسعى إلى إعادة تعريف علاقاتها مع الغرب، بل وحتى تحديها، في ظل سعيها إلى الحفاظ على علاقاتها مع روسيا.

موقف الاتحاد الأوروبي وردود الأفعال الدولية

أعرب الاتحاد الأوروبي عن قلقه العميق إزاء قرار منع التصويت من الخارج، واعتبره خطوة غير مسؤولة وغير متوافقة مع مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد حذر الاتحاد الأوروبي من أن هذا القرار سيؤدي إلى مزيد من تدهور العلاقات الثنائية وسيؤثر سلباً على فرص انضمام جورجيا إلى الاتحاد.

كما أدانت العديد من الدول والمنظمات الدولية هذا القرار، مطالبة السلطات الجورجية بالتراجع عنه وضمان حقوق مواطنيها في المشاركة السياسية. ترى هذه الجهات أن منع التصويت من الخارج يُعد انتهاكاً للحقوق الديمقراطية الأساسية ويقوض جهود تعزيز الديمقراطية في جورجيا.

جورجيا بين روسيا والغرب: سياسة “مزدوجة الاتجاه”

تواجه جورجيا وضعاً جيوسياسياً معقداً، حيث تحاول الموازنة بين مصالح روسيا والاتحاد الأوروبي. فمن جهة، تسعى البلاد إلى الانضمام إلى الهياكل الأوروبية مثل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، ومن جهة أخرى، تحرص على الحفاظ على علاقاتها مع الجار الشمالي، روسيا.

هذه السياسة “المزدوجة الاتجاه” تهدف إلى تجنب إغضاب أي من الطرفين، ولكنها في الوقت نفسه تجعل جورجيا عرضة للتجاذبات الإقليمية والدولية. قرار منع التصويت من الخارج يمكن اعتباره محاولة من الحكومة الجورجية لإرسال رسالة إلى الغرب، تفيد بأنها لن تتخلى عن علاقاتها مع روسيا وأنها ستتبع سياسة مستقلة تخدم مصالحها الوطنية. السياسة الخارجية الجورجية تمر بمرحلة تحول حاد.

تحليلات الخبراء: إعادة تقييم الأولويات

يرى المحللون أن القرارات الأخيرة في جورجيا تعكس إعادة تقييم للأولويات والنظرة إلى علاقاتها مع الغرب. ويخلصون إلى أن الاتحاد الأوروبي أخطأ في تعامله مع جورجيا، حيث ركز على فرض معايير دون تقديم دعم حقيقي لتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ويؤكدون على أن الضغوط الأوروبية على تبليسي للانضمام إلى نظام العقوبات ضد روسيا أدت إلى تأزيم العلاقات وتسببت في انعدام الثقة بين الطرفين. ويحذرون من أن سياسات الاتحاد الأوروبي قد تؤدي إلى فقدان موطئ قدمه في جنوب القوقاز، مما يفتح الباب أمام نفوذ روسي متزايد. المحلل السياسي غيفي أباشيدزه، يشير إلى أن هذا القرار يضع جورجيا أمام “مفترق طرق” حاسم.

باختصار، قرار منع الجورجيين من الخارج من التصويت هو خطوة ذات تداعيات بعيدة المدى على مستقبل السياسة الجورجية واستقرار المنطقة. وسيتطلب الأمر حواراً بناءً وجهوداً دبلوماسية مكثفة لتهدئة التوتر وإعادة بناء الثقة بين جورجيا والاتحاد الأوروبي.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version