في ظل تصاعد التحديات الأمنية، تشهد تركيا حملة واسعة النطاق لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب، حيث كشف وزير الداخلية التركي عن تفكيك مئات الشبكات الإجرامية واعتقال الآلاف من أفرادها. هذه الجهود المتواصلة تعكس التزام الحكومة بتعزيز الأمن في تركيا، وتأتي في وقت تولي فيه الملفات الأمنية أهمية قصوى على الأجندة الداخلية. وتسعى أنقرة من خلال هذه الإجراءات إلى تحقيق الاستقرار الداخلي وتعزيز دورها الإقليمي كشريك أمني موثوق به.
حملة مكافحة الجريمة المنظمة: نتائج ملموسة
أعلن وزير الداخلية التركي، علي يرلي كايا، عن تفكيك 552 شبكة إجرامية واعتقال 6788 من أفرادها منذ بداية العام الجاري، وذلك في إطار حملة مكثفة تقودها الحكومة ضد الجريمة المنظمة. جاء هذا الإعلان خلال مناقشة ميزانية وزارة الداخلية لعام 2026 في البرلمان التركي، حيث استعرض الوزير تفاصيل العمليات الأمنية ونتائجها الإيجابية.
وتضمنت هذه العمليات مصادرة أصول مالية ضخمة تقدر قيمتها بـ 76 مليار ليرة تركية مرتبطة بهذه الشبكات الإجرامية. ويؤكد هذا الجانب على أن ضرب الجذور المالية للجريمة يمثل أولوية استراتيجية رئيسية لوزارة الداخلية، حيث يُنظر إلى المال كوقود للجريمة المنظمة.
تنسيق أمني واسع النطاق
لم تقتصر العمليات الأمنية على جانب واحد، بل اتسمت بتنسيق واسع النطاق بين مختلف الوحدات المتخصصة، بما في ذلك تلك التي تعنى بمكافحة التهريب، وتجارة المخدرات، والجريمة السيبرانية. هذا التنسيق يهدف إلى تغطية جميع جوانب الجريمة المنظمة، حيث امتدت المعركة إلى الجبهات الرقمية والمالية واللوجستية.
كما كشف الوزير عن توقيف 395 أجنبياً داخل البلاد، بينهم 305 مدرجين على قوائم الإنتربول، وهذا يدل على التعاون الوثيق مع أجهزة الأمن الدولية في تبادل المعلومات وملاحقة المجرمين. بالإضافة إلى ذلك، تم إعادة 279 مطلوباً إلى تركيا بعد ملاحقتهم في الخارج، وأصدرت مذكرات توقيف بحق ألف و35 شخصاً آخرين متواجدين خارج البلاد.
تعزيز الأمن الإقليمي ومواجهة الإرهاب
ترتبط جهود تركيا في مكافحة الجريمة ارتباطًا وثيقًا بسياستها الإقليمية، حيث يرى المسؤولون أن تعزيز الأمن الداخلي يعزز أيضًا أمن شركائها الإقليميين. وفي هذا السياق، تتقاطع هذه الحملات مع مشروع “تركيا بلا إرهاب”، الذي يعتبره الرئيس رجب طيب أردوغان ركيزة أساسية لتحقيق الاستقرار الإقليمي.
وتولي السلطات التركية اهتمامًا خاصًا بتعزيز تبادل المعلومات الاستخباراتية وتكثيف العمليات المشتركة مع الدول الأخرى، بهدف مواجهة التحديات الأمنية العابرة للحدود. وفي تطور لافت، نجحت الشرطة التركية في القبض على مجرم محكوم بالسجن 77 عامًا كان فارًا من العدالة لأكثر من عامين، وذلك بعد أن تنكر بهيئة عامل توصيل الطعام في ولاية أدرنة.
انخفاض جرائم قتل النساء: مؤشر إيجابي
بالإضافة إلى مكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب، شهدت تركيا انخفاضًا ملحوظًا في جرائم قتل النساء خلال عام 2025. فقد بلغ عدد الضحايا 217 امرأة خلال الأشهر العشرة الأولى من العام، مقارنة بـ 290 ضحية خلال نفس الفترة من عام 2024، وهو ما يمثل انخفاضًا يقارب 25%.
يعزو وزير الداخلية هذا التراجع إلى فاعلية السياسات الوقائية التي تتبناها الحكومة، مع التأكيد على أن “كل حالة قتل ليست مجرد رقم، بل هي مأساة إنسانية”. وتدعم السلطات هذا التوجه من خلال مراقبة 1556 حالة بأساور إلكترونية في 67 ولاية، وإصدار 158411 أمرًا قضائيًا تقييديًا بحق أشخاص يشكلون تهديدًا لنساء معرضات للخطر، بالإضافة إلى 39735 قرار حماية فرديًا.
ميزانية أمنية ضخمة لعام 2026
في دليل واضح على الأولوية القصوى التي توليها الحكومة للملف الأمني، أعلن وزير الداخلية تخصيص حوالي 1.4 تريليون ليرة تركية (أكثر من 33 مليار دولار) لوزارة الداخلية في ميزانية عام 2026. هذه الميزانية تمثل 8.56% من الميزانية العامة للدولة، وهي نسبة غير مسبوقة تعكس التزام الحكومة بتوفير الموارد اللازمة لتعزيز الأمن القومي وتحديث البنية التحتية الأمنية.
ويرى المحللون أن هذه الميزانية الضخمة تهدف إلى ترسيخ “بيئة أمنية جديدة” تتناسب مع التطورات الحالية والتحديات المستقبلية، خاصة في ظل الاستحقاقات الانتخابية المتوقعة. كما يعتبرون أن الأداء الأمني أصبح جزءًا أساسيًا من معادلة الشرعية السياسية، خاصة بعد توظيف الحكومة للملف الأمني خلال الانتخابات المحلية الأخيرة.
تحول استراتيجي في نهج الدولة
يرى المحلل السياسي عمر أفشار أن الحملة الحالية ضد الجريمة المنظمة تمثل تحولاً استراتيجيًا في نهج الدولة، وليست مجرد رد فعل مؤقت على تصاعد الجريمة. ويوضح أفشار أن هذه الخطوة تأتي في إطار مشروع أوسع لإعادة تشكيل منظومة السلطة وتثبيت الدولة كمرجعية أمنية مطلقة.
ويشير إلى أن حجم الاستهداف الموجّه للشبكات الإجرامية يعكس سعيًا لتفكيك قوى النفوذ غير الرسمية التي تمددت خلال السنوات الماضية. هذا التحول يتقاطع مع سعي تركيا لتعزيز دورها الإقليمي كشريك أمني في مواجهة الجريمة العابرة للحدود، ويعتبره أفشار “فصلًا جديدًا في بناء الدولة المركزية الجديدة”.
باختصار، تعكس الجهود الحثيثة التي تبذلها تركيا في مجال مكافحة الجريمة والتصدي للإرهاب التزامًا راسخًا بتحقيق الأمن والاستقرار الداخلي والإقليمي. هذه السياسات، المدعومة بميزانية ضخمة وتعاون دولي وثيق، تُعد خطوات حاسمة نحو بناء مستقبل أكثر أمانًا وازدهارًا لتركيا وشعبها. لمتابعة آخر المستجدات في هذا المجال، ندعوكم لزيارة موقعنا بشكل دوري ومشاركة هذا المقال مع المهتمين.



