ذكر الكاتب جوليان بورغر في مقال له بصحيفة الغارديان البريطانية أن مسرح الجريمة المترامي الأطراف في التلال والحقول المحيطة بسربرنيتسا البوسنية لا يزال يُخرج عظام ضحايا مجازر الإبادة الجماعية في قلب أوروبا، مما يفشل سعيًا متواصلًا من الجناة وحلفائهم لإخفاء الأدلة.

وأضاف أنه في بلدة براتوناتس، على بعد نحو 10 كيلومترات شمال مدينة سربرنيتسا، أُقيمت مؤخرا مراسم دفن جماعي لبقايا ضحايا تم التعرف عليهم خلال العام الماضي.

ووقف حاجردين باراغانليجا، زوج زينيتا ووالد ألميرا، بجانب القبر ليرى دفنهما أخيرا، بعد أكثر من 30 عاما من آخر مرة احتضنهما فيها، حيث قال “إنه نوع من السلام أن تعرف على الأقل أين هما”.

وتابع أن معظم السكان الصرب في براتوناتس جاؤوا من مناطق أخرى في البوسنة بعد أن قُتل أو طُرد سكان المدينة المسلمون، والعديد منهم يعيشون في منازل القتلى.

إحياء الذكرى 29 لمجزرة سربرنيتسا التي ارتكبتها قوات صرب البوسنة عام 1995

مجزرة مروعة

وقد قُتل أكثر من 8 آلاف مسلم في سربرنيتسا في غضون أيام قليلة بعد 11 يوليو/تموز 1995، عندما سيطرت قوات صرب البوسنة على المنطقة، التي كان من المفترض أن تكون ملاذا محميا من قبل الأمم المتحدة.

وبحسب بورغر، تقع براتوناتس وسربرنيتسا الآن ضمن حدود كيان صربي بوسني، “جمهورية صربسكا”، الذي تم إنشاؤه بموجب اتفاقية دايتون للسلام التي أنهت الحرب في نوفمبر/تشرين الثاني 1995. وتُدير جمهورية صربسكا الشرطة المحلية وتُرفع أعلام صربيا في جميع أنحاء المنطقة، ولا يكتفي قادتها بإنكار الإبادة الجماعية، بل يمجدون القتلة.

ونقل عن حارث حليلوفيتش، مؤلف وعالم أنثروبولوجيا من مواليد سربرنيتسا وأستاذ في معهد ملبورن الملكي للتكنولوجيا قوله “الصمت التام الذي تلا الحرب تطور إلى احتفال حرفي بالإبادة الجماعية، وليس نوعا من خطاب الكراهية المعزول، بل أصبح تدريجيا أمرا سائدا تماما”.

وذكر بورغر أن حليلوفيتش نشر العام الماضي دراسة عن كل الأغاني الصربية الشعبية التي تحتفي بالإبادة الجماعية. إحداها تدعو إلى “تكرار مجزرة سربرنيتسا ثلاث مرات”، وتتضمن بيت شعر يقول “نامي بسلام يا فاطو، لقد تم ذبح كل من تحبين، فقط موجو لا، فهو معلق عند البوابة”.

وقال حليلوفيتش “ما يثير الصدمة هو كيف تُؤدى هذه الأغاني في حفلات التعميد، وحفلات الزفاف، وأعياد الميلاد، وليس في أماكن نائية أو مغلقة من قبل قوميين متطرفين”.

“أصوات موتانا لم تتلاشَ، إنهم لا يزالون معنا، ويسألوننا ألا نصمت بينما جريمة الإنكار منتشرة في كل مؤسسة حولنا”.

بواسطة ألماسة صاليحوفيتش

أصوات باقية

ألماسة صاليحوفيتش، التي قُتل شقيقها الأكبر عبد الله في فظائع سربرنيتسا عام 1995 قالت “أصوات موتانا لم تتلاشَ، إنهم لا يزالون معنا، ويسألوننا ألا نصمت بينما جريمة الإنكار منتشرة في كل مؤسسة حولنا”.

ألماسة وعائلتها اضطروا لدفن شقيقها عبد الله مرتين، بعد العثور على أجزاء مختلفة من جسده في فترات متباعدة.

ويوضح الكاتب بورغر أن القوات الصربية، وفي محاولتها لإخفاء جريمة الإبادة عام 1995، نبشت مجموعة من المقابر الجماعية ونقلت الرفات إلى مواقع أخرى، وقاموا بذلك بسرعة باستخدام حفارات ميكانيكية ضخمة قطعت الأجساد وخلطت العظام، مما جعل عملية العثور على الضحايا وتحديد هوياتهم معقدة ومؤلمة.

وتابع أن عمليات القتل الجماعي بدأت بموجتين رئيسيتين، كانت الأولى في 1992 على شكل سلسلة سريعة من الهجمات المفاجئة المنسقة على قرى وبلدات المسلمين، بينما كان الرئيس الصربي وقتها سلوبودان ميلوسوفيتش، يحاول إنشاء “صربيا الكبرى”، فلجأ الناجون من تلك المجازر إلى سربرنيتسا، وهي مدينة قديمة لتعدين الفضة، تم إعلانها “منطقة آمنة” من قبل الأمم المتحدة في أبريل/نيسان 1993.

وفي فجر يوم 6 يوليو/تموز 1995، وصلت موجة القتل الثانية، حيث انهار وهم الحماية الأممية عندما بدأ جيش صرب البوسنة بقيادة الجنرال راتكو ملاديتش هجوما على “المنطقة الآمنة” في سربرنيتسا، وتخلت الكتيبة الهولندية التابعة للأمم المتحدة عن مواقعها في مواجهة الهجوم، بينما فر العديد من رجال المسلمين المحليين إلى الغابات.

عار هولندي

هرب المدنيون في القرى المحيطة إلى مدينة سربرنيتسا، وفي النهاية إلى مقر الأمم المتحدة الهولندي، وهو مصنع بطاريات في مكان يُدعى بوتوتشاري، شمالا على الطريق إلى براتوناتس.

لكن في اليوم التالي، سيطرت القوات الصربية على بوتوتشاري، وتجولت بين الحشود، وهي تسحب الرجال والفتيان للمساءلة، ولم يُروا مرة أخرى.

وفي يوم الخميس 13 يوليو/تموز، جاء دور من كانوا داخل المصنع، حيث أمرهم الصرب بالخروج، وسلمهم الجنود الهولنديون وسمحوا باعتقالهم، ولم يروا مرة أخرى.

ويُعد مصنع البطاريات في بوتوتشاري الآن “مركز تذكار سربرنيتسا”، حيث تم الحفاظ على آثار وجود قوات حفظ السلام الهولندية، بما في ذلك كتابات بذيئة عن الفتيات البوسنيات تركها الجنود الذين كان من المفترض أن يحموهنّ.

وتتابع الغادريان أنه بين الحين والآخر، يزور قدامى المحاربين الهولنديين الموقع، أحد أكثر الفصول الشائنة في التاريخ العسكري لبلدهم، وقد أشار أحدهم مؤخرا إلى أثر مروّع لم يُلاحظ سابقا: حبال معلقة في مستوى مرتفع من إحدى قاعات المصنع، استخدمتها بعض الفتيات المحليات لمحاولة شنق أنفسهن بدلًا من تسليم أنفسهن للصرب.

ويقول الكاتب في مقاله إن مركز تذكار سربرنيتسا يقف كجزيرة صخرية صغيرة في بحر من الإنكار، يُصفع باستمرار بأمواج عدائية.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version