في قلب أوروبا، تتبلور ملامح قيادة جديدة، غير تقليدية، تجمع بين رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني فريدريش ميرتس. هذا التحالف الثلاثي، الذي أطلقت عليه مجلة “إيكونوميست” البريطانية اسم “إي 3″، يمثل محاولة لملء الفراغ القيادي في القارة، وتعزيز دور أوروبا في مواجهة التحديات الجيوسياسية المتزايدة. وعلى الرغم من التحديات الداخلية التي تواجه كل من القادة الثلاثة، إلا أنهم يجدون أرضية مشتركة في الحاجة إلى تنسيق المواقف بشأن قضايا حاسمة مثل الحرب في أوكرانيا، والتهديد الإيراني، وتقلبات السياسة الأمريكية. هذا التحالف الجديد، أو القيادة الأوروبية الثلاثية، يثير تساؤلات حول مستقبل التعاون الأوروبي، ودور بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.

نشأة وتطور القيادة الأوروبية الثلاثية

بدأت ملامح هذا التعاون تتضح بعد تولّي فريدريش ميرتس منصبه في مايو الماضي، بالتزامن مع انتخاب حكومة بريطانية جديدة أعطت الأولوية لإصلاح العلاقات مع الاتحاد الأوروبي. رحلة بالقطار استغرقت 11 ساعة إلى كييف، قام بها القادة الثلاثة في بداية عهد ميرتس، كانت بمثابة نقطة تحول رئيسية، حيث عززت الروابط الشخصية وعمقت التفاهم الاستراتيجي بينهم.

منذ ذلك الحين، أصبح التواصل منتظمًا بين مستشاري الأمن القومي للدول الثلاث – جوناثان باول (بريطانيا)، وإيمانويل بون (فرنسا)، وغونتر زوتر (ألمانيا) – حيث يجتمعون عدة مرات أسبوعيًا لمناقشة القضايا الحساسة، بما في ذلك الحرب في أوكرانيا، وأمن أوروبا، والأزمة مع إيران، والوضع في قطاع غزة. هذا التنسيق الوثيق يعكس إدراكًا متزايدًا للحاجة إلى وحدة الصف الأوروبي في مواجهة التحديات المشتركة.

دوافع القادة الثلاثة وراء هذا التحالف

يرى القادة الثلاثة، وفقًا للوزير الفرنسي المنتدب للشؤون الأوروبية بنجامين حداد، أن أوروبا يجب أن تتحمل مسؤولية أكبر عن أمنها، حتى مع الحفاظ على علاقاتها الوثيقة مع واشنطن. هذا الطرح يعكس قلقًا أوروبيًا متزايدًا بشأن موثوقية الحماية الأمريكية، خاصة في ظل التغيرات السياسية المحتملة في الولايات المتحدة.

الدافع وراء هذا التعاون ليس فقط التحديات الخارجية، بل أيضًا المصاعب السياسية الداخلية التي تواجه القادة الثلاثة. فكل منهم يقود حكومة ضعيفة، ويواجه تهديدًا من اليمين الشعبوي، ويعاني من نقص في الشعبية داخل بلاده. هذا التشابه في الظروف السياسية يخلق نوعًا من التعاطف والتفاهم المتبادل، ويدفعهم إلى البحث عن حلول مشتركة للتحديات التي تواجههم.

الاستقلالية الإستراتيجية الأوروبية

تعتبر فرنسا هذا المحور خطوة نحو تحقيق “الاستقلالية الإستراتيجية الأوروبية” التي يروج لها الرئيس ماكرون منذ سنوات. هذه الاستقلالية تتطلب إشراك بريطانيا، باعتبارها قوة نووية أوروبية رئيسية، حتى وإن كانت خارج الاتحاد الأوروبي.

تعويض الانقسامات الأوروبية

بالنسبة لألمانيا وبريطانيا، يمثل هذا التعاون فرصة لتعويض الانقسامات الأوروبية والصعوبات المتزايدة في العلاقة مع الولايات المتحدة. كما أن المعاهدات الثنائية التي وقعتها باريس وبرلين ولندن هذا العام قد ساهمت في تعزيز هذا التعاون، من خلال إنشاء شبكة جديدة من “التعددية الثنائية”.

مجالات التوافق والتحديات التي تواجه القيادة الأوروبية الثلاثية

الملف الأوكراني يمثل أهم مجال للتوافق بين القادة الثلاثة. فهم يدعمون “تحالف الراغبين” الذي يهدف إلى إنشاء قوة طمأنة في حال تحقيق وقف إطلاق النار. وقد تم إنشاء مقر عسكري لهذا التحالف بالقرب من باريس، بينما يشارك ميرتس في رئاسة الاجتماعات، مع رفضه نشر قوات ألمانية على الأرض.

في ملفات أخرى حساسة، مثل المفاوضات النووية الإيرانية، تسعى القيادة الأوروبية الثلاثية إلى تقديم صوت أوروبي موحد. ومع ذلك، تواجه هذه الصيغة بعض القيود، مثل اختلاف المواقف بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، حيث اعترفت لندن وباريس بالدولة الفلسطينية بينما تتردد ألمانيا بسبب اعتبارات تاريخية.

التحديات المحتملة

بالإضافة إلى ذلك، هناك اختلافات في تفضيلات الدول الثلاثة فيما يتعلق بشراء الأسلحة (الأمريكية مقابل الأوروبية)، وفي قدرة بريطانيا على المشاركة في بعض الملفات التجارية التي تقع ضمن اختصاص الاتحاد الأوروبي. كما أن بعض الدول الأوروبية الأخرى، مثل إيطاليا وبولندا، قد تشعر بالإقصاء من هذا المحور، مما قد يؤدي إلى تفاقم الانقسامات داخل القارة.

مستقبل القيادة الأوروبية الثلاثية

على الرغم من هذه التحديات، فإن مستقبل هذا التحالف يعتمد على قدرته على البقاء مرنًا واستيعاب دول أخرى عند الحاجة. كما أن تجنب الظهور كـ”نادي مغلق” سيكون أمرًا بالغ الأهمية لضمان قبوله من قبل باقي الدول الأوروبية.

إن متانة هذا المحور تكمن في قدرته على حماية مصالح أوكرانيا والحد من أسوأ سيناريوهات السياسة الأمريكية. وعلى الرغم من أن الطموحات ليست مفرطة، إلا أن مجلة “إيكونوميست” ترى أن هذه القيادة الأوروبية الثلاثية قد تكون “أفضل أمل لأوروبا” لتحقيق الاستقرار والازدهار في ظل الظروف العالمية المتغيرة. هذا التحالف يمثل بداية لمرحلة جديدة من التعاون الأوروبي، تتسم بالواقعية والبراغماتية والتركيز على المصالح المشتركة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version