منذ أن أطلقت روسيا حربها الشاملة في أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، أصبحت قدرتها على إعادة بناء وتحديث قواتها العسكرية محور نقاش واسع بين المحللين العسكريين والاقتصاديين.

وبينما تروّج موسكو لرواية استعادة “القوة العظمى” عبر التوسع في الإنتاج العسكري والتعبئة الشاملة، تشير الوقائع الميدانية والاقتصادية إلى صورة أكثر تعقيدا؛ فروسيا الآن عالقة بين خطاب القوة وواقع مرهق لحرب طويلة أنهكت جيشها واقتصادها ومجتمعها.

عودة الجثامين إلى القرى مع تعويضات متأخرة أو رمزية خلقت حالة استياء صامتة لم تتحول بعد إلى معارضة علنية، لكنها تزداد انتشارا، بحسب تقارير “BBC وISW”

الخسائر البشرية والاجتماعية: نزيف متواصل وسخط صامت

تُعدّ الخسائر البشرية التحدي الأكبر أمام الجيش الروسي. فوفق تقديرات غربية حديثة، تجاوز إجمالي القتلى والجرحى والأسرى الروس المليون بحلول منتصف 2024، في أكبر استنزاف عرفته البلاد منذ الحرب الأفغانية. وحتى الأرقام المتحفظة -كالصادرة عن واشنطن بوست- تشير إلى مقتل ما بين 150 و200 ألف جندي حتى مطلع 2025.

هذا النزيف أجبر الكرملين على اللجوء إلى تعبئة غير تقليدية؛ إذ اعتمدت موسكو على حملات تجنيد بين السجناء مقابل وعود بالعفو، وهو أسلوب بدأت به مجموعة فاغنر ثم تبنّته المؤسسة العسكرية لاحقا.

وأدت برامج التدريب المستعجلة -التي لا تتجاوز أسبوعين قبل إرسال المجندين إلى جبهات مثل باخموت وأفدييفكا- إلى مضاعفة الخسائر، حتى وصف بعض المحللين ما يجري بأنه “مذابح تكتيكية” أكثر من كونها عمليات عسكرية.

أما الانعكاس الاجتماعي لهذه السياسات فكان عميقا؛ فسياسة “التعبئة الجزئية” التي أُعلنت في خريف 2022 أطلقت موجة نزوح داخلية وهجرة خارجية لآلاف الشبان المؤهلين، خصوصا من المدن الكبرى.

وفي المقابل، تحملت المناطق الريفية والفقيرة العبء الأكبر من التجنيد والخسائر، ما فاقم الفوارق الطبقية وأشعل شعورا بالغبن تجاه النخب الحضرية. كما أن عودة الجثامين إلى القرى مع تعويضات متأخرة أو رمزية خلقت حالة استياء صامتة لم تتحول بعد إلى معارضة علنية، لكنها تزداد انتشارا، بحسب تقارير “BBC وISW”.

تقر تقارير روسية داخلية بأن الاعتماد على المخزونات القديمة وإعادة تأهيل مصانع الحقبة السوفياتية حل مؤقت لا يمكن أن يعوّض غياب التكنولوجيا المتقدمة

الخسائر المادية والصناعية: جيش ضخم بمعدات متقادمة

إلى جانب النزيف البشري، فقدت روسيا جزءا كبيرا من قدراتها المادية. يشير تقرير The Military Balance 2025 الصادر عن المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية إلى أن موسكو فقدت نحو نصف دباباتها الحديثة من طرازَي T-72B3 وT-90. هذا الاستنزاف أجبرها على سحب دبابات T-62 وT-55 من المخازن السوفياتية القديمة، وهي أقل قدرة على مواجهة الأسلحة الغربية التي تتلقاها أوكرانيا.

كما تراجع التفوق الناري الروسي في المدفعية -الذي كان في بداية الحرب بنسبة عشرة إلى واحد- إلى نحو اثنين إلى واحد فقط في بعض الجبهات؛ بسبب الضربات الأوكرانية الدقيقة على مستودعات الذخيرة ومحطات القيادة، مدعومة بالمعلومات الاستخباراتية الغربية.

هذا التحول يعبّر عن خلل في اللوجيستيات وانقطاع في سلاسل الإمداد، تفاقم بفعل العقوبات التي حرمت روسيا من مكونات أساسية مثل أشباه الموصلات والرقائق الدقيقة.

محاولات إعادة التسلح تصطدم بعقبات تكنولوجية وهيكلية؛ فبرامج إنتاج الدبابة الحديثة T-14 “أرماتا” والطائرة المقاتلة سو-57 “فيليكن” تعاني من تأخيرات مزمنة.

وتقر تقارير روسية داخلية بأن الاعتماد على المخزونات القديمة وإعادة تأهيل مصانع الحقبة السوفياتية حلّ مؤقت لا يمكن أن يعوّض غياب التكنولوجيا المتقدمة.

ولتعويض النقص، اتجهت موسكو نحو إيران للحصول على طائرات مسيّرة مثل “شاهد”، وإلى الصين كمصدر تقني وتجاري. بيدَ أن هذه الشراكات تبقى محدودة؛ فالمسيّرات الإيرانية لا تضاهي نظيراتها التركية أو الأميركية، والتعاون مع الصين في التكنولوجيا الحساسة يظل حذرا لتجنّب عقوبات غربية إضافية. النتيجة: جيش كبير من حيث العدد، لكنه يعتمد على ترسانة قديمة وحلول بديلة مؤقتة.

موسكو قادرة على إنتاج كميات ضخمة من العتاد وتعويض جزء من خسائرها البشرية، لكنها عاجزة عن تحقيق طفرة نوعية في التسليح أو التدريب

الاقتصاد الحربي: صلابة ظاهرية وإنهاك داخلي

رغم العقوبات، لم ينهَر الاقتصاد الروسي كما توقعت بعض العواصم الغربية؛ فقد لجأت الحكومة إلى سياسات طارئة كرفع أسعار الفائدة، وتحويل التجارة نحو آسيا، واستثمار الطفرة المؤقتة في صادرات الطاقة. لكن هذه الصلابة سطحية، فالإنفاق العسكري يلتهم ما يفوق 6% من الناتج المحلي، ما أدى إلى تضخم مرتفع ونقص في الاستثمارات المدنية.

يحذّر محللو منصة “Russia Matters” -المختصة بالعلاقات الأميركية الروسية- من أن تحويل الموارد بهذا الحجم يعيد إنتاج أخطاء الحقبة السوفياتية حين أُنهك الاقتصاد بفعل سباق التسلح. فبينما تتفاخر موسكو بأنها ضاعفت إنتاجها العسكري، تتراجع جودة البنية التحتية والخدمات، ويُثقل العبء الضريبي على المواطنين. هذا الوضع يولّد “استقرارا هشا” يقوم على الإنفاق الدفاعي لا على تنمية مستدامة.

ما بين الدعاية والواقع

بين الرواية الروسية التي تتحدث عن “نهضة عسكرية” والواقع الذي تصفه التقارير الغربية والأوكرانية، تتكشف فجوة عميقة. فموسكو قادرة على إنتاج كميات ضخمة من العتاد وتعويض جزء من خسائرها البشرية، لكنها عاجزة عن تحقيق طفرة نوعية في التسليح أو التدريب. الصناعة الحربية تعمل بطاقة عالية، لكنها تظل حبيسة التكنولوجيا القديمة، فيما يعتمد الجيش على العدد لا على النوعية.

اقتصاديا، تستطيع روسيا تمويل حرب طويلة بفضل احتياطاتها ومبيعاتها من الطاقة، لكنها تدفع ثمنا اجتماعيا باهظا. فالهجرة، وارتفاع التفاوت الطبقي، وتآكل الثقة بين المجتمع والسلطة، كلها مؤشرات على تآكل “جبهة الداخل” مهما أظهرت الأرقام من تماسك مالي.

المعركة الحقيقية هي معركة الزمن: فهل سينجح النظام الروسي في تحويل هذه “القوة الكمية” الهشّة إلى قوة نوعية مستدامة وقادرة على المنافسة طويلة الأمد، قبل أن تتراكم التداعيات الاقتصادية والاجتماعية؟

جيش يصمد ولا يتجدد

يبدو أن المسار الذي تسلكه روسيا هو مسار “إعادة بناء هشة”. فالقدرات التي تروّج لها موسكو- رغم ضخامتها العددية- تبقى قائمة على كمّ كبير من العتاد القديم والتجنيد القسري للجنود غير المدربين، مع اعتماد متزايد على الحلفاء لسدّ الثغرات التكنولوجية. الرواية الرسمية عن “جيش متجدّد وأقوى” هي في جوهرها جزء من الدعاية والحرب النفسية.

اقتصادها “صامد لكنه منهك”، وجيشها “كبير لكنه مليء بالثغرات”. المعركة الحقيقية هي معركة الزمن: أسينجح النظام الروسي في تحويل هذه “القوة الكمية” الهشّة إلى قوة نوعية مستدامة وقادرة على المنافسة طويلة الأمد، قبل أن تتراكم التداعيات الاقتصادية والاجتماعية؟ أم أن فجوة التكنولوجيا والابتكار مع الغرب، إلى جانب الاستنزاف البشري، ستفضي في النهاية إلى إضعاف هيكلي دائم لأكبر جيش في أوروبا؟

الإجابة عن هذا السؤال لن تحدد مصير الحرب في أوكرانيا فحسب، بل أيضا مكانة روسيا في النظام العالمي خلال العقود القادمة.

نقلا عن موقع الجزيرة

أصيل سارية
كاتب صحفي

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version