بورسعيدـ بنما سيتي- قليل هم الدبلوماسيون الذين يؤثرون ويغيرون في طبيعة مصالح بلادهم وفي خريطة العالم الجيوستراتيجية في آن واحد، ومن بين هؤلاء يأتي الدبلوماسي والإداري الفرنسي فرديناند ديليسبس، الذي غيرت أفكاره فعليا خريطة العالم، وترك آثارا واضحة تمثلت في شق قناتي السويس وبنما.

وخلال زيارتين لكل من قناة بنما (82 كيلومترا، ويمر عبرها 5% من التجارة الدولية)، وقناة السويس (182 كيلومترا، ويمر عبرها 13% من التجارة الدولية)، اقتفت الجزيرة نت إرث الرجل الذي غير في النصف الثاني من القرن الـ19 خريطة العالم بطرحه فكرة شق قناتين، الثانية تصل البحرين المتوسط بالأحمر، والأولى تصل المحيطين الأطلسي بالهادي.

نجح ديليسبس في إنجاز شق قناة السويس، لكنه فشل في شق قناة بنما، وفي مدينة بورسعيد عند المدخل الشمالي لقناة السويس، وفي بنما سيتي عند المدخل الغربي لقناة بنما، اختلفت الآراء في تقييم إرث الرجل الذي أثرت أفكاره على تاريخ المدينتين، وحاضر الجمهوريتين، البنمية والمصرية.

فشل ونجاح

فشل ديليسبس في شق قناة بنما، ومع ذلك ينظر إليه البنميون بصورة إيجابية، وله تمثال صغير في أحد أركان المدينة، ورغم أنه نجح ديليسبس في شق قناة السويس، فإن المصريين لا ينظرون إليه بإيجابية وأسقطوا تمثاله من مدخل القناة الشمالي.

ويقول المتحدث الرسمي والمؤرخ في هيئة إدارة قناة بنما، خايمي ترويانو، إنه “لا يوجد تنسيق فني واسع بين هيئة قناة بنما وهيئة قناة السويس، رغم أن الفرنسي ديليسبس هو صاحب فكرتهما، وهما كيانان منفصلان، ويعملان بطرق مختلفة، إذ لا تستخدم قناة السويس الأحواض أو الأهوسة، ومدخلاها يقعان على الارتفاع نفسه، وذلك على العكس من قناة بنما”.

وأشار ترويانو -في حديث للجزيرة نت- إلى أن ذلك “لا يمنع أن تتعلم قناة السويس من قناة بنما، وتتعلم بنما من مصر، رغم الاختلافات الكبيرة بين القناتين”.

هيئة قناة بنما حيث يتم توجية السفن المارة من هذه البرج التاريخي

في حضن التاريخ

دعا دبلوماسي في العاصمة البنمية موفد الجزيرة نت لعشاء في فندق “لاكامبانيا” (la Compañia) في حي كاسكو أنتيغو بقلب المدينة القديمة.

لا يزال الفندق يحمل عبق تاريخه الحافل، الذي يؤرخ للبلاد منذ ما قبل استقلالها عن كولومبيا، ويبرز على أحد جدران الفندق صورة لديليسبس، أخذت له عندما نزل في الفندق عام 1880 في أثناء سعيه لجمع التأييد لشق قناة بنما.

ولد ديليسبس في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1805 لعائلة دبلوماسية فرنسية، ومن هنا كان من السهل عليه أن يرث مهنة العائلة العريقة، والتي بسببها سافر منذ الصغر إلى تونس ومصر، وأصبح مفتونا بثقافات البحر المتوسط، وهو ما دفعه للعمل في إسبانيا وإيطاليا حتى تقاعد مبكرا عام 1849.

ومنذ عام 1854، أصبح ديليسبس صديقا لسعيد باشا ابن العائلة الخديوية الحاكمة لمصر، واستوحى فكرة شق قناة السويس من قراءاته عن خطط نابليون بونابرت العشوائية بضرورة شق قناة تسمح للسفن الكبيرة التي ترغب في الإبحار إلى الشرق بالذهاب مباشرة من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر بدلا من الرحلة البحرية الطويلة حول أفريقيا.

دعمت الخطة لجنة دولية من المهندسين، ثم جذب دعما ماليا من الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث وآخرين، وبالفعل بدأ البناء في أبريل/نيسان 1859، وافتتحت قناة السويس في نوفمبر/تشرين الثاني 1869.

وفي عام 1875، باعت الحكومة المصرية أسهمها في القناة، واشترت بريطانيا بعد ذلك حق السيطرة الفعلية على شركة القناة.

التوجه إلى بنما

وبناء على نجاحه في شق قناة السويس، حول ديليسبس انتباهه إلى قناة بنما، وفي مايو/أيار 1879، اجتمع مؤتمر من 136 مندوبا (بما في ذلك ديليسبس) في مقر الجمعية الجغرافية في باريس، وصوتوا لصالح إنشاء قناة بنما، وحصل ديليسبس لاحقا على موافقة الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان).

وذهب ديليسبس إلى بنما لرؤية المسار المخطط للقناة عام 1880، وهو في الـ74 من العمر، وقدّر أن المشروع سيكلف 658 مليون فرنك، و8 سنوات حتى يكتمل.

بعد عامين من المسوحات، بدأ العمل في القناة في عام 1882، ومع ذلك، فإن الصعوبات الفنية للعمل في المناطق الاستوائية الرطبة أعاقت المشروع. وفي البداية، قلل ديليسبس من تعقيدات بناء القناة بسبب التضاريس الصعبة والبيئة الاستوائية، وتوفي ما يقرب من 22 ألف عامل بسبب الملاريا والحمى الصفراء.

وأصر ديليسبس بعناد على أن مستوى سطح البحر لا يمثل أي مشكلة، وذلك رغم الأدلة الهندسية على أن التصميم القائم على تصميم أحواض لرفع أو خفض السفن سيكون أكثر جدوى.

وفي النهاية، أعلنت شركة قناة بنما إفلاسها في ديسمبر/كانون الأول 1888، ودخلت في عملية تصفية في فبراير/شباط 1889.

ويثمن البنميون جهود ديليسبس، رغم فشل مشروعه الذي عرف باسم “فضيحة قناة بنما”، بعد انتشار شائعات بأن السياسيين والصحفيين الفرنسيين تلقوا رشاوى.

وبحلول عام 1892، اتضح أن 150 نائبا برلمانيا فرنسيا قد تلقوا رشوة للتصويت لصالح تخصيص مساعدات مالية لشركة قناة بنما، وفي 1893 واجه ديليسبس وابنه تشارلز وأخرين المحاكمة، وتمت إدانتهم، وحكم على ديليسبس بدفع غرامة وقضاء عقوبة بالسجن، وألغيت لاحقا عقوبة السجن.

بعد ذلك، أكملت الولايات المتحدة شق قناة بنما في النهاية، وافتتحت عام 1914 بعدما تغلب المهندسون الأميركيون على معضلة اختلاف مستوى السطح بين المحيطين.

إرث ديليسبس بمصر

وبينما يتم الاحتفال بديليسبس بوصفه دبلوماسيا إستراتيجيا صاحب رؤية، فإن هناك أيضا روايات تسلط الضوء على استغلال العمال المصريين والعمال البنميين دون الاعتراف بمساهماتهم وتضحياتهم.

وينظر عديد من المصريين إلى بناء قناة السويس على أنها فترة عمل قسري ومعاناة هائلة للشعب المصري، وتقدر بعض الروايات أن نحو 100 ألف مصري لقوا حتفهم في أثناء بناء القناة، ويعد الجدل حول تمثال ديليسبس والماضي الاستعماري الأوسع جزءا من نقاش أكبر حول كيفية تذكر وتفسير التاريخ والتراث المصري.

وتم نصب تمثال ديليسبس عند مدخل قناة السويس، ولكن تمت إزالته لاحقا ردا على أزمة السويس عام 1956، التي تضمنت تأميم مصر للقناة، وتعكس إزالة التمثال والجدل المستمر حوله العلاقة المعقدة بين ديليسبس والقناة والهوية الوطنية المصرية.

وتحدث شاب مصري للجزيرة نت من على ظهر معدية تعبر القناة من جانبها الغربي إلى الشرقي في اتجاه مدينة بورفؤاد، قائلا “أنا لا أعرف عن ديليسبس إلا أنه صاحب فكرة شق قناة السويس. القناة تعود ببعض الفوائد من عوائد مالية للحكومة المصرية، لكن بسبب القناة، عانت مصر من الاحتلال البريطاني لعقود، وأصبحت هدفا للتدخلات الأجنبية بسبب أهمية القناة”.

وأضاف الشاب “لم أشاهد تمثال ديليسبس أبدا، فقط أشاهد قاعدة التمثال منذ طفولتي، لا أريد أن يعاد وضع التمثال عند مدخل القناة”.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version