في نهاية شهر أغسطس/آب الماضي، أجرى رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، مقابلة صحفية غير تقليدية. ظهر آبي مرتديا بدلة رمادية، وجالسا على كرسي أبيض، واضعا إحدى قدميه فوق الأخرى في مواجهة الكاميرات، ومن خلفه ارتفع جسم سد النهضة الإسمنتي الشاهق، مغلقًا تمامًا، دون أن تتدفق منه المياه. في هذا المشهد الذي أعدّته أديس أبابا بعناية، ظهر آبي ليعلن اكتمال المشروع الحُلم، واستعداد بلاده لحفل الافتتاح المرتقب يوم 9 سبتمبر/أيلول الحالي.

خلال اللقاء، أعلن آبي أحمد أن اكتمال وتشغيل سد النهضة الإثيوبي الكبير بالكامل يمثل نهاية “التحدي التاريخي الأعظم” الذي تواجهه إثيوبيا، واصفا نهر “أباي” -التسمية المحلية للنيل الأزرق- بأنه “أم كل المشاكل” التي واجهتها البلاد على مدى قرون، مؤكدا أن تسخيره من خلال سد النهضة يمثل نهاية “صراع دام 1000 عام”. وقارن هذا الإنجاز بالتحديات الأخرى التي تواجهها إثيوبيا، بما فيها عدم القدرة على الوصول إلى البحر الأحمر، والذي قال إنه “سيتم تصحيحه غدًا”، إلى جانب الفقر، وندرة الموارد، وهي تحديات طفيفة مقارنة بالتحديات التي واجهتها البلاد لإكمال سد النهضة.

اقرأ أيضا

list of 2 itemsend of list

بدا واضحاً أن الرجل الذي يتحدث اليوم بثقة، غيرُ ذاك الرجل الذي وقف قبل أعوام متواضعاً مبتسمًا إلى جوار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال مؤتمر صحفي في قصر الاتحادية بالقاهرة ليُقسم أن السد لن يضر بمصر، قبل أن يطلّ مؤخرا معلنا أن بلاده أنجزت “نضالها المائي” بأكبر مشروع في تاريخ أفريقيا الحديث.

وبينما تجهّز أديس أبابا لحفل الافتتاح، بدعوات رسمية إلى مصر والسودان والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وزعماء أفارقة، يتجاوز الحدث طابع الاحتفال المحلي ليغدو لحظة جيوسياسية فارقة تُعيد رسم التوازنات في منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل.

في الداخل الإثيوبي، يُسوَّق السد العملاق كرمز للنهضة الوطنية والتنمية، وثمرة لتضحيات الشعب الإثيوبي، وفي الخارج يُقدَّم كإنجاز أفريقي يُثبت قدرة القارة على تحقيق مشاريع كبرى بإمكاناتها الذاتية. لكن خلف هذه الصورة الاحتفالية، تدرك دولتا المصب مصر والسودان أن اكتمال السد بعد الإصرار الإثيوبي على الملء المنفرد، دون تنسيق، ودون التوصل إلى اتفاق ملزم لآليات التشغيل؛ يعني تغيرًا جوهريًا في معادلة القوة المائية والاقتصادية، وأن مستقبل النيل بات مفتوحًا على سيناريوهات لم تعد تخلو من أشباح الصراع.

كيف وصلنا إلى هنا؟

منذ آلاف السنين، لم يكن نهر النيل بالنسبة للمصريين مجرد مجرى مائي، بل شريان حياة ورمزًا لهويتهم ووجودهم ذاته. يمتد النهر لمسافة تقارب 6695 كلم عبر 11 دولة، ويغطي حوضه مساحة تبلغ نحو 2.9 مليون كلم مربع، ليصبح من أكبر أحواض الأنهار في العالم. وتأتي 86% من موارده من الهضبة الإثيوبية (59% من النيل الأزرق، 14% من السوباط، 13% من عطبرة)، بينما لا يتجاوز إسهام النيل الأبيض القادم من منطقة البحيرات الاستوائية (وأهمها بحيرة فيكتوريا) سوى 14% فقط.

وتحصل مصر على نحو 55.5 مليار متر مكعب سنويًا، أي ما يعادل 97% من مواردها المائية المتجددة من مياه النيل، وهو ما يفسر اعتمادها شبه الكامل عليه نظرًا لندرة الأمطار، حيث يعيش أغلب سكانها على ضفتيه. هذا الاعتماد الوجودي جعل أي حديث عن تحكم طرف آخر في منابعه مثيرًا لمخاوف عميقة في المخيلة المصرية. ورغم توسع البلاد في مشروعات تحلية المياه والاعتماد على المياه الجوفية، فإنها تبقى بلدًا فقيرًا مائيًا، والنيل هو العامل الحاسم في معادلة أمنها القومي والغذائي.

أما السودان، فبالرغم من أن النيل مصدر ثلثيْ استخداماته المائية، فقد بدا موقفه أكثر التباسًا في البداية، إذ انقسمت المواقف بين من رأى في سد النهضة تهديدًا محتملًا للأمن المائي وخطرًا في حال انهياره، وبين من اعتبره فرصة للتنمية والحماية من الفيضانات. غير أن هذا الموقف سرعان ما تماهى مع الموقف المصري لاحقا، إذ انخرطت الخرطوم في المطالبة باتفاق ملزم ينظم الملء والتشغيل، معتبرة أن السلوك الإثيوبي يهدد مصالحها الحيوية.

في المقابل، صاغت إثيوبيا سردية مختلفة تمامًا، قدّمت فيها النيل الأزرق بوصفه موردًا حُرمت منه تاريخيًا. وأمام مجلس الأمن عام 2021، قال وزير المياه الإثيوبي، سيليشي بقلي: “اعتراض مصر والسودان يهدف إلى منعنا من استخدام مياهنا.. مشروع سد النهضة محاولة لتحقيق حلم الإثيوبيين واستجابة لمتطلبات حياتهم”. وسخرت أديس أبابا أدواتها الدبلوماسية والإعلامية للتأكيد أن السد مخصص لتوليد الكهرباء، لا لحرمان دول المصبّ من حصصها المائية.

بيد أن مكمن الصراع ليس في مجرد بناء السد أو حتى الغرض الرئيسي منه، وإنما في سؤال جوهري: هل النيل -تحديدا النيل الأزرق- مورد إثيوبي خالص (كما تروج أديس أبابا ضمنيا وعلنيا في بعض الأحيان)، أم نهر دولي عابر للحدود خاضع لقيود الأعراف والقانون الدولي؟ ما يجعل الخلاف أكثر من مجرد خلاف على حصص مائية؛ بل صراع على تعريف هوية النهر نفسه.

هذا الجدل المعاصر لا يمكن فصله عن جذور تاريخية تعود لأكثر من قرن من الزمان، حين بدأت أولى الاتفاقيات التي قيدت استخدامات مياه النيل، وأدخلت النزاع حوله إلى قلب السياسات الإقليمية. كان ذلك في لحظة مبكرة من القرن 20، حينما وُقّعت اتفاقية عام 1902 بين الإمبراطور الإثيوبي منليك الثاني وبريطانيا التي كانت تمثل مصر والسودان آنذاك. وقد نصّت الاتفاقية بوضوح على التزام إثيوبيا بعدم إقامة أي مشروعات على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط؛ دون موافقة دول المصب.

تعتبر القاهرة والخرطوم هذه الاتفاقية سندًا قانونيًا صريحًا يُبطل مشروعية السد الحالي، خصوصًا أن منطقة بني شنقول -التي أُقيم عليها السد- كانت ضمن السودان ثم ألحقت بإثيوبيا بموجب الاتفاق ذاته الذي استخدمته أديس أبابا نفسها سندا قانونيا في ترسيم حدودها مع إريتريا. ولكن فيما يتعلق بنهر النيل، تعتبر إثيوبيا أن تلك الاتفاقية (وسائر اتفاقيات تقاسم المياه المبرمة في زمان الاستعمار البريطاني، ومنها اتفاقية عام 1929 التي منحت مصر حق الاعتراض على أي مشروعات تقام على النهر دون موافقتها)، لا تعدو أن تكون أدوات استعمارية لا تُلزمها بشيء، وأنها صاحبة السيادة المطلقة على مواردها الطبيعية.

لاحقا مع انتصاف القرن 20 واحتدام الحرب الباردة وصراع المشاريع القومية، صارت الأبعاد الجيوسياسية للصراع أكثر وضوحا. فقد وضعت الولايات المتحدة عبر مكتب استصلاح الأراضي الأميركي خططًا طموحة منذ الخمسينيات لبناء مشروعات مائية في الهضبة الإثيوبية، بهدف خلق توازن إقليمي يحدّ من نفوذ جمال عبد الناصر ومشروعه القومي العربي، إذ كانت واشنطن ترى في دعم أديس أبابا ورقة ضغط استراتيجية على مصر التي كانت آنذاك تقود حركة عدم الانحياز وتتبنى خطابًا مناهضًا للغرب.

وفي السياق ذاته، وجدت إسرائيل الناشئة في تلك المرحلة فرصة للتغلغل في القرن الأفريقي من خلال ما عُرف باستراتيجية “شد الأطراف” التي صاغها بن غوريون، وسعت إلى تطويق دول الطوق -ومنها مصر- عبر التحالف مع دول غير عربية على تخومها، مثل تركيا وإثيوبيا وإيران في زمان الشاه. وقد جاء الاهتمام الإثيوبي بالمياه في تلك المرحلة متقاطعًا مع التصور الإسرائيلي بضرورة إضعاف مصر عبر تهديد مصدر حياتها الرئيسي وهو النيل.

وعلى امتداد النصف الثاني من القرن 20، تعاقبت محطات التوتر حول منابع النيل دون أن تصل إلى انفجار مباشر، حيث ظلت القاهرة تعتبر أن الترتيبات التاريخية تمنحها شرعية مطلقة في إدارة مياه النيل، بينما كانت أديس أبابا تؤكد على خطاب “الحرمان التاريخي” الذي تتعرض له. وازدادت تلك السردية رسوخًا مع تنامي الفكر الأفريقي المناهض للاستعمار الذي قدّم نفسه بوصفه معركة للتحرر والسيادة الوطنية، لتصبح المياه في المخيال الإثيوبي ليست مجرد مورد، بل عنوانًا لاستعادة الكرامة المهدورة.

المسافة صفر - سد النهضة

مسارات التصعيد والمواجهة

امتدادا لخطوط الصراع التاريخي حول مياه النيل، تعود البدايات الأولى لأزمة سد النهضة إلى أبريل/نيسان 2011، حين وضعت الحكومة الإثيوبية حجر الأساس للمشروع على أراضي إقليم بني شنقول، في لحظة بدت القاهرة فيها غارقة في ارتباك ما بعد ثورة 25 يناير وسقوط نظام مبارك. ومثّل هذا التوقيت فرصة لأديس أبابا لفرض مشروعها الحلم الذي اقترحه مكتب استصلاح الأراضي الأميركي قبل عقود.

استمرت الأوضاع السياسية المضطربة في مصر لسنوات تالية وترافقت مع أزمة اقتصادية ضاغطة، وكانت نتيجة ذلك أن القاهرة لم تكن على مستوى الحدث في التعاطي مع السد الذي يهدد أمنها المائي. لكن مطرقة التحولات السياسية لم تضرب مصر وحدها، فقد كان لإثيوبيا والسودان نصيب منها. وفي أديس أبابا توفي رئيس الوزراء ميليس زيناوي فجأة عام 2012، لتدخل البلاد مرحلة انتقالية مضطربة قادها هايلي مريام ديسالين، قبل أن يصل آبي أحمد إلى السلطة عام 2018، مدفوعًا بخطاب إصلاحي سرعان ما تبدد مع اندلاع حرب إقليم تيغراي في نوفمبر/تشرين الثاني 2020.

أما في السودان، فقد أطاحت انتفاضة ديسمبر/كانون الأول 2018 بثلاثة عقود من حكم عمر البشير، لكن البلاد انزلقت سريعًا إلى توتر سياسي بين المكونين المدني والعسكري للسلطة الانتقالية، لتدخل في صراع دموي بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ أبريل/نيسان 2023، وهو ما أضعف موقف الخرطوم التفاوضي في الملف المائي.

في خضم هذه السيولة والهشاشة، ورغم أزمتها السياسية الداخلية والحرب الدموية في تيغراي، عملت أديس أبابا بصبر وصمت على تغيير الحقائق على الأرض. وبحلول مارس/آذار 2015، وقّعت مصر والسودان وإثيوبيا “اتفاق إعلان المبادئ” في الخرطوم، وهو الاتفاق الذي اعتبرته القاهرة حينها إطارًا للتعاون، لكنه مثّل بالنسبة لأديس أبابا اعترافًا رسميًا غير مسبوق بشرعية السد. وقد استغلت إثيوبيا هذا الاتفاق للمضي في البناء بوتيرة متسارعة.

ابتداءً من يوليو/تموز 2020، أعلنت إثيوبيا تنفيذ الملء الأول للسد بشكل أحادي، تلاه الملء الثاني عام 2021، وحينها لجأت مصر والسودان إلى مجلس الأمن الدولي، لكن الجلسة انتهت ببيان إنشائي يدعو إلى الحوار دون أي إلزام، لتكمل أديس أبابا الملء الثالث عام 2022، والرابع عام 2023. وبعده أعلن [u]وزير الري المصري في ديسمبر/كانون الأول 2023 رسميًا انهيار المفاوضات و”انتهاء المسار التفاوضي” مع أديس أبابا، محملًا إياها مسؤولية الإصرار على فرض الأمر الواقع. ورغم ذلك، مضت إثيوبيا قدمًا في صيف 2024 نحو الملء الخامس. ومع كل عملية ملء، كانت المفاوضات تدخل في دوامة جديدة من الجمود، لتثبت أديس أبابا أنها قادرة على المضي دون اتفاق ملزم، بينما تزداد شكوك الخرطوم والقاهرة بشأن نواياها.

وعلى المستوى الدولي، كان التدخل الأميركي هو الأبرز، إذ استضافت واشنطن جولات تفاوضية عامي 2019 و2020، حيث كان الرئيس ترامب “خلال ولايته الأولى” يأمل إنجازَ تسوية تكون داعمة له في سباق الرئاسة، لكن الوساطة الأميركية انتهت إلى صياغة اتفاق مدعوم من البنك الدولي رفضت إثيوبيا التوقيع عليه في اللحظة الأخيرة، بينما وقعت مصر بالأحرف الأولى وساندها السودان حينها.

في خضم هذا التعثر، صرّح الرئيس ترامب في أكتوبر/تشرين الأول 2020 أن “مصر قد تفجر السد” إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق، ما أثار استياء أديس أبابا. وبعد عودته إلى البيت الأبيض عام 2025، اعترف ترامب صراحة -لأول مرة- بمشاركة الولايات المتحدة في تمويل سد النهضة، واصفا الخطوة بأنها “غباء من الحكومة الأميركية”. غير أن هذا التصريح ظل في حدود الخطاب الإعلامي، دون ترجمة سياسية فعلية على الأرض. أما الأطراف الدولية الأخرى، من الاتحاد الأوروبي إلى الصين وروسيا، فقد فضلت النأي بنفسها عن صراع معقد لا ترغب في خسارة أي طرف من أطرافه.

وعلى الصعيد الفني والاقتصادي، واصلت إثيوبيا الترويج لسد النهضة باعتباره أكبر مشروع كهرومائي في أفريقيا، و”رمزًا للنهضة الوطنية”. وقد بلغت تكلفة إنشاء السد ما بين 4 و5 مليارات دولار، بطول يقارب 1.8 كلم وارتفاع 145 مترًا، وبسعة تخزينية تصل إلى 74 مليار متر مكعب. وعند اكتمال تشغيل جميع التوربينات، سيولّد السد أكثر من 5000 ميغاواط من الكهرباء، من شأنها مضاعفة إنتاج الطاقة الكهربائية التي لا تتوفر حالياً إلا لنصف سكان البلاد البالغ عددهم أكثر من 120 مليون نسمة، ويمكّنها[y] من تصدير الفائض إلى دول الجوار مثل كينيا وتنزانيا وربما السودان.

تروّج أديس أبابا أن السد مشروع “بُني بعرق الإثيوبيين وتضحياتهم”، وأنه اعتمد بشكل أساسي على تمويل داخلي عبر الاكتتاب الشعبي والسندات الحكومية والمنح، بجانب قروض محدودة من شركات مقاولات دولية. ولكن، بغض النظر عن الجدل حول تمويل السد وحجم المشاركة الخارجية فيه، يظل الادعاء الأكثر جدلا لإثيوبيا أن الملء تم دونما تأثير على دولتيْ المصب، وقد زعم آبي أحمد في تصريحاته أمام البرلمان الإثيوبي في يوليو/تموز الماضي، أنه “لم ينقص لتر واحد من حصة مصر” خلال سنوات الملء.

وعلى الجانب الآخر، رفضت القاهرة والخرطوم الادعاءات الإثيوبية، وتمسكتا بمطلبٍ أساسي: اتفاق قانونيّ مُلزِم لقواعد الملء والتشغيل. ففي مصر، قال وزير الموارد المائية والري هاني سويلم، إن بلاده ترفض “سياسة فرض الأمر الواقع عبر إجراءات أحادية”، وتؤكد غياب الإرادة السياسية لدى أديس أبابا للتوصل إلى اتفاق مُلزِم، محذّرًا من مسعى “للهيمنة المائية بدل الشراكة”.

في السياق ذاته، فنّد السفير محمد حجازي (مساعد وزير الخارجية الأسبق) مقولة آبي أحمد “لم تنقص قطرة من حصة مصر”، واعتبرها مناقضة لحقائق التشغيل الفنية، في حين قدّم أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية عباس شراقي، تقديراتٍ رقمية قاسية، قائلا إن تخزين نحو 60 مليار متر مكعب خلال 5 سنوات حتى سبتمبر/أيلول 2024، بينها نحو 20 مليارًا في عام 2024، هو خصمٌ من حصة مصر، وهو ما انعكس-بحسبه- على سياسات المياه والزراعة وتكلفة مشروعات التعويض ومعالجة المياه داخل مصر بما يتجاوز 500 مليار جنيه مصري (حوالي 10 مليارات دولار).

لم يختلف الحال كثيرا في الخرطوم، فقد قدّم وزير الري والموارد المائية السوداني الأسبق ياسر عباس، تحذيرا عمليًّا وحادًّا في آن واحد، قائلا إن السد “بات واقعا من دون اتفاق قانوني ملزم”، وإن قربه الشديد من خزان الروصيرص (110 كلم) يجعل تشغيل الأخير غير آمن دون تبادل يومي للمعلومات. وذكّر الوزير بحادث يوليو/تموز 2020 عندما خرجت محطات مياه شرب في الخرطوم عن الخدمة أيامًا بسبب عدم الإخطار بالتخزين، مؤكدًا أن السودان يؤمن بحق إثيوبيا في التنمية كما يؤمن بحقه في سلامة الروصيرص، وأن “القاعدة القانونية هي الاستخدام المنصف والمعقول من غير إحداث ضرر”، ومن ثمّ فإن الاتفاق -أو على الأقل تبادل البيانات- شرطٌ لاستدامة المنافع وتقليل المخاطر.

كما تثير الاعتبارات المناخية مخاوف إضافية، إذ إن تغيّر المناخ يزيد من تقلبات الهيدرولوجيا في حوض النيل، بين موجات الجفاف الممتد والفيضانات العنيفة. وهذا يجعل الاعتماد على سد ضخم بهذا الحجم أكثر خطورة، خصوصًا مع استمرار الجدل حول معدلات الأمان الإنشائية لجسم السد، وما قد يعنيه ذلك بالنسبة للسودان الواقع مباشرة في مجرى النيل الأزرق.

لكن إثيوبيا لم تُلق بالا لكل هذه المخاطر والتحذيرات، فمع اقتراب لحظة الافتتاح الفعلي للسد، تشعر أديس أبابا بالنشوة لنجاحها في فرض وقائع جيوسياسية جديدة لا تكفي التصريحات المنددة لتغييرها، مهما كثرت.

استراتيجية إثيوبيا.. استعادة مجد الإمبراطورية

منذ وضع حجر الأساس لسد النهضة عام 2011، تبنّت أديس أبابا سياسة تفاوضية قائمة على الحوار المستمر في الظاهر، ولكن دون تقديم تنازلات أو تعهدات جوهرية. كانت كل جولة تنتهي بلا اتفاق ملزم، في حين استمر البناء والملء الأحادي بوتيرة متصاعدة حتى اكتمال المشروع. لم تكن هذه مجرد مناورة تكتيكية، بل تعبيرًا عن رؤية استراتيجية تعتبر السد استعادةً لحق تاريخي إثيوبي في مياه النيل، وتصحيحًا لعقود من “الحرمان المائي”، وإثباتًا لحق إثيوبيا في استغلال مواردها للتنمية.

وقد صاغ رئيس الوزراء آبي أحمد هذه الرؤية بخطاب تعبوي مؤخراً بمناسبة قرب الافتتاح الرسمي للسد، حين قال إن النيل الأزرق لم يحمل بعيدا عبر القرون تربة إثيوبيا الخصبة فحسب، بل أخذ أيضًا “ذهبها”، في تكريس لشحن الوجدان الوطني وربط السد بالكرامة التاريخية. وعبّرت ورقة “الاستراتيجية المائية الإثيوبية” التي أصدرها المعهد الإثيوبي للشؤون الخارجية في العام الماضي عن هذه الرؤية بشكل أكثر وضوحًا، إذ اعتبرت المياهَ الموردَ الجيوسياسي الأهم لإثيوبيا في القرن 21، وأن استغلالها يندرج ضمن مشروع “النهضة الوطنية” الهادف إلى إعادة تعريف مكانة البلاد كقوة إقليمية، مشيرة إلى الإرث السلبي للعلاقات المصرية-الإثيوبية. بهذا المعنى، لم يعد السد مشروعًا إنشائيًا فحسب، بل رمزًا لهوية سياسية جديدة تطرح إثيوبيا كفاعل لا يمكن تجاوزه في السياسات الإقليمية.

على المستوى الداخلي، تحوّل السد إلى أداة سياسية بيد رئيس الوزراء آبي أحمد، لتجاوز أزمات متراكمة: اقتصاد متعثر، نزاعات عرقية، وحرب دامية في تيغراي منذ 2020، حيث جرى توظيفه لحشد إجماع وطني يخفف من حدة الانقسامات الداخلية في مجتمع لا تزال أطرافه الإثنية في حالة احتكاك متكرر، وهي احتكاكات وصلت في لحظة ما إلى محيط السد ذاته. ويواصل آبي أحمد استخدام السد كرمز لوحدة الدولة ومشروعها الحداثي، مع الحديث عن إيرادات متوقعة من وراء تشغيل السد تصل إلى مليار دولار سنويا.

إقليميًا، ربط آبي أحمد بين اكتمال السد و”الحلم القومي” بالحصول على منفذ بحري سيادي، سواء عبر جيبوتي أو إريتريا أو حتى أرض الصومال “صومالي لاند”، معتبرًا أن الدولة الإثيوبية لا يمكن أن تظل حبيسة بعد الآن، وأن “خطأ إثيوبيا في البحر الأحمر سيتم تصحيحه”. هذا الطموح يتقاطع مع التنافس المحموم في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، حيث تتموضع العديد من القوى الإقليمية والدولية الفاعلة. وبالنسبة لأديس أبابا، فإن تصدير فائض الكهرباء إلى دول الجوار لن يكتمل دون بوابة بحرية تضمن لها التحرر الاقتصادي والجيوسياسي.

أما دوليًا، فتسعى إثيوبيا إلى توظيف السد كورقة مساومة مع القوى الكبرى، فهي تَعرضه كأكبر مشروع طاقة متجددة في أفريقيا أمام الصين والاتحاد الأوروبي، وقد أشارت تقارير بالفعل إلى توجه شركات صينية متخصصة في تعدين العملات المشفرة (ذات الاستهلاك الكثيف للطاقة) نحو نقل أعمالها إلى إثيوبيا.

لكن خلف هذه الاستراتيجية الطموحة تقبع هشاشة داخلية متفاقمة. فإلى جانب حرب تيغراي التي ما زالت ارتداداتها قائمة، أفادت تقارير نشرتها “أفريكا إنتليجنس” (Africa Intelligence) عن محاولات تقارب بين فصائل من عرقي أمهرة وأورومو في مواجهة النظام، إلى جانب مؤشرات على تجاوز بعض قيادات تيغراي عداءها التقليدي مع إريتريا باتجاه تفاهمات جديدة، وصلت بالبعض إلى تصور انفصال الإقليم عن الفيدرالية الإثيوبية ووحدته مع إريتريا. كل ذلك ينبئ بأن سياسات آبي أحمد القائمة على الاستئثار بالسلطة وتوظيف السد كأداة رمزية؛ قد تفتح الباب أمام إعادة رسم الخريطة الداخلية، حيث لا يعود السد مصدر قوة فقط، بل أيضًا بؤرة محتملة لتفجر الصراعات إذا انهارت التوازنات بين القوى المتنافسة.

استراتيجية دولتي المصب.. خيارات صعبة

بينما تحتفل أديس أبابا باكتمال مشروع سد النهضة، تبدو دولتا المصب أمام معادلة شديدة التعقيد. فمنذ بدء البناء والملء الأحادي، اتبعت القاهرة والخرطوم مسارًا يجمع بين الضغط الدبلوماسي والسعي للتعاون عبر جولات التفاوض، على أمل انتزاع اتفاق قانوني ملزم ينظم حصص المياه التاريخية المقدّرة بنحو 85 مليار متر مكعب للبلدين. غير أن هذه الجهود باءت بالفشل، لتظل اتفاقية 1929 التي أرست “الحقوق المكتسبة” لمصر والسودان؛ ذكرى أكثر منها أداة فاعلة في ميزان القوة الراهن.

في الحالة المصرية، تحوّل السد إلى ملف وجودي يمس الأمن القومي في أبعاده المائية والغذائية. هذا التهديد دفع القاهرة إلى الانتقال من موقع رد الفعل إلى سياسة أكثر مبادرة، عبر إعادة التموضع في القرن الأفريقي. وفي السنوات الأخيرة، نشطت مصر في الصومال بإبرام اتفاق أمني عسكري عام 2024 شمل تزويد مقديشو بالسلاح وتدريب القوات النظامية، ثم الترتيب لإرسال قوات ضمن بعثة الاتحاد الأفريقي الجديدة مطلع 2025، في أول وجود ميداني خارجي منذ سبعينيات القرن الماضي.

وبالتوازي، أعادت القاهرة فتح سفارتها في مقديشو، ودشنت خط طيران مباشرا إلى العاصمة الصومالية، بالإضافة إلى زيارة رئاسية رسمية لجيبوتي في أبريل/نيسان 2025، هي الثانية خلال ثلاثة أعوام فقط بعد زيارة في عام 2021 كانت الأولى لأي رئيس مصري على الإطلاق. كما دعمت مصر مرشح جيبوتي في سباق رئاسة الاتحاد الأفريقي محمود علي يوسف، الذي توج بالنجاح، في مسعى لتكريس حضور سياسي طويل المدى. كما قادت القاهرة قوة بحرية متعددة الجنسيات في البحر الأحمر “CTF 153” في أبريل/نيسان 2025، ما منحها أداة مباشرة لحماية الممرات المائية التي تشكل شريانًا للتجارة العالمية وأمن قناة السويس.

تزامن ذلك مع تحركات أوسع لتوثيق الصلات مع إريتريا، فقد عقدت قمة ثلاثية في أسمرة (أكتوبر 2024) جمعت قادة مصر وإريتريا والصومال لمواجهة “التمدد الإثيوبي” بعد مذكرة التفاهم التي وقعتها أديس أبابا مع أرض الصومال بشأن افتتاح منفذ بحري لإثيوبيا مقابل اعترافها باستقلال الإقليم. كما عززت القاهرة تعاونها مع أوغندا وجنوب السودان في مجالات الري والمشروعات التنموية، رغم توتر عابر عقب تصديق جوبا على اتفاقية عنتيبي عام 2024. كما شهدت العلاقات المصرية الكينية تطوراً ملحوظاً أيضا.

غير أنه رغم توسع التحركات المصرية في القرن الأفريقي، يبقى حضورها محكومًا بقيود بنيوية؛ أبرزها محدودية الموارد وضعف الأدوات الاقتصادية والمؤسسية مقارنة بمنافسيها، إلى جانب تعقيد التنسيق مع الشركاء الإقليميين. كما يزيد تداخل الأزمات الإقليمية (السودان، ليبيا، غزة) من صعوبة صياغة استراتيجية مستدامة تعزز النفوذ المصري في الإقليم.

أما السودان، فيبدو أن الحرب في البلاد تؤثر بشدة على فاعليته السياسية في هذا الملف، ما يجعله أقرب للدوران في فلك القاهرة، بينما تحاول أديس أبابا اختراق الموقف السوداني أولا من خلال تعزيز علاقاتها مع قوات الدعم السريع، قبل أن تحول بوصلتها نسبيا ساعية للتقارب مع الجيش وتخطي الجمود في العلاقات بين البلدين.

هكذا تبدو استراتيجيتا القاهرة والخرطوم محاصرتين بتحديات داخلية وضغوط إقليمية متشابكة. فبينما تحاول مصر موازنة أزمتها الاقتصادية مع طموح إعادة التموضع الجيوسياسي، يجد السودان نفسه غارقًا في صراع داخلي يجرده من أي أوراق ضغط. وفي مواجهة سد النهضة، يظل الخيار الأكثر إلحاحًا لدولتي المصب هو البحث عن تنسيق أوثق، ولو في ظروف قاسية، لمواجهة تهديد وجودي يغير معادلات الأمن المائي في وادي النيل برمته.

مؤخرًا، جددت القاهرة والخرطوم موقفهما المشترك خلال اجتماع وزيري الخارجية والري في سبتمبر/أيلول 2025، عبر الآلية الثنائية “2+2″، برفض مساعي إشراك دول أخرى من حوض النيل في النزاع بشأن السد، وضرورة حصره بين مصر والسودان وإثيوبيا فقط. كما أكد البيان أن اتفاق 1959 لا يزال الإطار القانوني المرجعي، وأن أي محاولات لتهميشه لن تنال من الحقوق المكتسبة للدولتين، مطالبين بضرورة استعادة التعاون داخل الإطار القانوني المعترف به.

اكتمال السد.. لمن المياه اليوم؟

بالرغم من أن اكتمال سد النهضة بدا للبعض خاتمة صراع طويل، فإنه في الواقع يفتح الباب أمام ترتيبات أوسع في حوض النيل. فمع دخول اتفاقية عنتيبي (الإطار التعاوني لحوض النيل) حيّز النفاذ في أكتوبر/تشرين الأول 2024 بعد مصادقة جنوب السودان، ترغب إثيوبيا أيضا في تبديل الأساس القانوني للصراع المائي؛ كما نجحت سلفا في تغيير وقائعه على الأرض.

أُطلقت الاتفاقية أصلًا في مدينة عنتيبي الأوغندية عام 2010، لتعيد تعريف مبادئ تقاسم المياه على أساس “الاستخدام المنصف والمعقول”، بدلًا من الاعتراف بالحقوق التاريخية لمصر والسودان. وقد انضمت إليها دول المنبع مثل إثيوبيا ورواندا وتنزانيا وأوغندا وبوروندي، بينما وقّعت كينيا على الاتفاقية دون أن تصادق عليها، أما مصر والسودان فرفضا التوقيع باعتبارها تنتقص من حصصهما المقررة في اتفاقيتي 1929 و1959، خاصة أنهما من أفقر دول الحوض مائيًا وتعتمدان بشكل شبه كلي على النيل لتأمين احتياجاتهما الأساسية، ما يجعل التمسك بالحقوق التاريخية مسألة وجودية.

في هذا السياق، لا تقدم أديس أبابا سد النهضة كمجرد مشروع وطني، بل كجزء من “نظام مائي جديد” يعيد رسم قواعد اللعبة في الحوض، مؤكدة أن هذا السد لن يكون الأخير، إذ لوحت بالتخطيط لسلسلة سدود مستقبلية على النيل الأزرق يصل عددها إلى 10، بينما تشهد دول أخرى حراكًا مشابهًا؛ فقد أعلنت دولة جنوب السودان وأوغندا قبل عام عن خطة مشتركة لبناء سدين على نهر نيمور، أحد روافد النيل الأبيض.

وبحسب خطة المشروع الذي يُعرف باسم “نيمور-ليمور”، سيتم بناء أحد السدين في جنوب السودان بكلفة تقدر بنحو 36 مليون دولار، والآخر في أوغندا بنحو 60 مليونا. هذه المشاريع تعكس أن الحوض كله بات ساحة لإعادة توزيع المياه والطاقة والنفوذ، لا مجرد ساحة نزاع ثلاثي. وفي خضم ذلك، برزت أصوات أخرى تدعو إلى تغيير المعادلة: الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني صرّح من القاهرة خلال مؤتمر صحفي مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في أغسطس/آب 2025، أن دول الحوض ينبغي أن تركز على التعاون والتنمية، ورد السيسي بأن النيل بالنسبة لمصر “مسألة حياة”، مؤكدًا دعم التنمية بشرط عدم المساس بحقوق البلاد المائية.

هذه اللغة المزدوجة تكشف عن مرحلة جديدة عنوانها قبولٌ أوسع لمشروعات المنبع مقابل اشتراطات أشد للتنسيق والتشغيل. غير أن نجاح إثيوبيا في فرض سدها كأمر واقع بدون اتفاق ملزم، يلوّح بأن التجربة قد تُغري دولًا أخرى بنسخها إذا استمر غياب الحوكمة المشتركة.

في الختام، إذا وضعنا الأرقام على الطاولة، تظهر المفارقة بوضوح: فرغم ضخامة هطولات الأمطار في منابع النيل والتي ذهبت بعض التقديرات إلى أنها تناهز 1500 مليار متر مكعب، فإن ما يصل فعليًا إلى أسوان، أقصى جنوب مصر، لا يتجاوز 84 مليارا. وبينما يضيع جزء هائل من هذه الموارد في الطريق -على سبيل المثال، تتبخر ما بين 10 و12 مليار متر مكعب في بحيرة ناصر خلف السد العالي جنوب مصر، ويختفي نحو 20 مليارا في مستنقعات السد بجنوب السودان وسط ذلك الفقد الضخم في إيرادات الحوض- تنحصر المعركة السياسية في صراع على 55.5 مليارا لمصر و18.5 مليارا للسودان وفق اتفاقية 1959. المفارقة إذن أن دول الحوض في منافسة محمومة على “القليل” المتبقي، بدل التفكير في كيفية استثمار “الكثير” الذي يهدر كل عام.

من هنا تتبدى ثلاثة سيناريوهات لمستقبل النهر: الأول هو التوسع الإثيوبي، عبر بناء مزيد من السدود ومواصلة السعي إلى منفذ بحري، وهو مسار ينذر بتوترات متزايدة في إقليم هش أصلًا. الثاني هو الاتفاق الملزم، برعاية من الاتحاد الأفريقي وضغط دولي، يضع قواعد واضحة للملء والتشغيل وتبادل البيانات الفوري، ويحوّل السدود من أدوات ابتزاز إلى منصات تعاون. أما الثالث فهو الجمود، حيث يستمر الوضع الحالي: لا حرب شاملة ولا اتفاق نهائي، بل تراكم للشكوك والفواقد.

لكن ما وراء هذه السيناريوهات يقبع سؤال أعمق: هل أزمة النيل هي أزمة مياه فعلًا، أم أزمة تنمية وإدارة موارد، أم أنها صراع جيوسياسي تثقله عداوات تاريخية؟ ويبقى السؤال الأكثر إلحاحا: ماذا بعد أن صار سد النهضة أمرا واقعا؟ ولمن تؤول مياهه.. اليوم وفي المستقبل؟

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version