صوفيا- بعد طريق ضيّق ومتعرّج بين غابات من أشجار الزان نحو قرية سكورتسيتي، تكشف نهايته عن مشهد أشبه بالحلم، تبرز بيوت بشرفات خشبية وسقوف من القرميد الحجري، تمثل طراز العمارة التقليدية القديمة للمنازل في البلقان.

كل شيء محفوظ وفي مكانه، ولكن الصمت يطوق القرية، فلا أحد يسكن فيها سوى النسيم الذي يتجوّل بين الساحات وحدائق البيوت. وللوهلة الأولى، يبدو هذا المشهد غير متوقع في دولة كبلغاريا كانت مشهورة بخبراتها وطاقاتها الزراعية وإمكاناتها الكبيرة في البستنة والتشجير.

تقع قرية سكورتسيتي في منطقة جبلية على بعد بضعة كيلومترات من مدينة تريافنا، وتعتبر واحدة من 64 قرية خالية من السكان في محافظة غابروفو وسط بلغاريا، والتي تتصدّر قائمة المحافظات ذات القرى الخالية، رغم أنها كانت في بداية القرن العشرين مركزا صناعيا مزدهرا وكانت قراها غنية.

ووفقًا للبيانات الرسمية من المعهد الوطني للإحصاء في نهاية عام 2024، توجد في بلغاريا 257 مدينة و4999 قرية، ومن بين هذه القرى هناك نحو 1258 قرية يقطنها أقل من 50 شخصا، بينما لا يسكن أحد في نحو 200 قرية.

موارد وطاقات مهدورة

زارت الجزيرة نت هذا المكان الساحر لتكشف عن الأسباب التي دفعت المزارعين إلى خارج قراهم، خصوصا أن دولًا مثل المجر وكرواتيا وغيرها تنسب تطور البستنة فيها للمزارعين البلغار منذ القرن 18.

تقول نيكولينا لازاروفا، وهي واحدة من بين 6 من مربّي المواشي الذين بقوا في المحافظة كلها، “أُربي الاغنام لأنها إرثي من أجدادي، جيلا بعد جيل، ولا أنوي التوقف، لكني قلّصت عددها من 280 إلى 120 رأسا”.

وتؤكد للجزيرة نت أن دعم البلدية والحكومة شبه غائب، فلا مواصلات ولا كهرباء، مشيرة إلى أن الإعانات المقدمة لتربية المواشي موحدة ولا تراعي الفروقات، حيث تُعد تربية المواشي في المناطق الجبلية أكثر صعوبة وكلفة، إذ تبقى الحيوانات شتاء في الحظائر، خلافًا لمناطق السهول.

وعن واحدة من المشاكل، تتحدث لازاروفا عن استثمار أصواف الأغنام، وتقول إن جميع مربّي الأغنام في البلاد يرمون الصوف، فلا أحد يستثمر فيه من خلال إنشاء مصانع، وتضرب مثالا على إمكانية استغلاله كعازل حراري في البناء، لكن لا أحد يستجيب.

Zdravko Kanchev زادرافكو كانتشيف (صاحب شركة تصنيع الالات)

 

من جهته، يسعى زادرافكو كانتشيف للحفاظ على تقاليد عائلته في صناعة الآلات، ويقول للجزيرة نت “أسّس والدي شركتنا لتصنيع المعادن عام 1992، وهي مصدر رزقنا. مررنا بفترات جيدة وأخرى صعبة، والآن نواجه تحديات، لكننا نستمر، فهذا ما نُجيده”.

ويرى كانتشيف أن الخصخصة دمرت الصناعة، ويقول “إن المصانع الكبرى أفلست وباعت معداتها. فعلى سبيل المثال، مصنع الروافع الكهربائية الذي كان ينتج 100 ألف وحدة سنويا تفكك، وحلّ مكانه 5 شركات صغيرة لا تنتج مجتمعة حتى خُمس الإنتاج السابق”.

وقال إنه “في لحظة ما، نشأ فراغ، بعد إغلاق المصانع الكبرى، وضربت البطالة غابروفو، واضطر كثيرون إلى الهجرة. أما الآن، ومع بداية تعافي الصناعة، لم يبق هناك من يعمل”.

 

الهجرة الداخلية

تعود جذور الهجرة الداخلية إلى بدايات القرن 20 مع صعود الصناعة، ففي الحقبة الشيوعية شجعت الدولة التصنيع وصادرت الأراضي لمصلحة التعاونيات، لكنها في المقابل اعتبرت الزراعة أولوية وطنية، ونجحت في تطويرها عبر نظام التعاونيات الفلاحية.

تقول كريستينا سيدوروفا، حاكمة المحافظة السابقة والأستاذة في جامعة التقنية في غابروفو، إن الشركات الكبرى افتتحت فروعا لمصانعها خلال العهد الاشتراكي في القرى لإبقاء السكان فيها، لكن الخصخصة في التسعينيات دمّرت تلك الصناعات، كما أن تفكيك التعاونيات الفلاحية “كان خطأ فادحًا”.

وتوضح سيدوروفا -في حديثها للجزيرة نت- أن قانون إعادة الأراضي إلى ملاكها في أوائل التسعينيات جزّأ الملكيات، إذ كان معظم الورثة يقيمون في المدن ولا يرغبون في الزراعة، فبقيت مساحات شاسعة بورًا ودُمّرت البساتين، وتحوّلت بلغاريا من مصدّر للحوم إلى بلد لا يستطيع سد اكتفائه الذاتي.

وتتابع بقولها إن “ما أنجز عبر عقود دُمّر بخفة يد، ومنذ 30 عامًا نحاول أن نعيد بناءه، ولكننا لا نستطيع أن نصل إلى المستوى في السابق. فاليوم، الإنتاج البلغاري غالٍ ونادر، والسوق غارقة بالمنتجات المستوردة”.

 

وتوافقها الرأي أستاذة علم الاجتماع في جامعة صوفيا ووزيرة العمل السابقة كريستينا كريستوفا التي قالت إن التاريخ سيُقيّم تفكيك التعاونيات الفلاحية كخطأ إداري فادح، إذ شكلت نموذجًا فعّالًا للعمل الجماعي الزراعي.

كما انتقدت كريستوفا -في حديثها للجزيرة نت- الخصخصة التي كان من المفترض أن تجلب نهضة اقتصادية، لكنها أدت إلى إغلاق المصانع وزيادة الهجرة نحو المدن الكبرى والخارج.

وتشير إلى أن ثلث السكان يتركزون في 3 مدن، وهي: صوفيا، وفارنا، وبلوفديف، بينما تنتج العاصمة وحدها 43% من الناتج المحلي الإجمالي.

مبادرة الإصلاح الاجتماعي

تتصدر بلغاريا دول الاتحاد الأوروبي من حيث مدة إجازة الأمومة ونسبة التعويض، إذ يحق للأم الحصول على إجازة أمومة لمدة عام، بتعويض شهري يعادل 90% من راتبها، وهو دخل يكفي لتغطية غيابها عن سوق العمل، كما أن تعويض العام الثاني متاح أيضًا، لكن بنسبة أقل.

كما يوفر قانون العمل حماية للأمهات، من خلال أنه لا يمكن فصل امرأة لديها طفل دون 4 سنوات إلا بموافقة خاصة من مفتشية العمل، كما تُمنح الأم فترات رضاعة خلال الدوام، ولا يجوز إرسالها في مهمة من دون موافقتها إذا كان طفلها دون 12 عامًا.

وتُنسب إلى كريستينا كريستوفا مبادرة الإصلاح الاجتماعي لدعم الولادة في بلغاريا عام 2005، والتي تضمنت إعفاءات ضريبية للأزواج الشباب عند شراء السكن الأول، كما حصلت على وسام تاج مملكة بلجيكا تقديرًا لإنجازاتها في السياسات الاجتماعية.

وتلفت كريستوفا النظر أيضا إلى دور الأزمة الديمغرافية، وتقول إن هناك 3 عوامل رئيسية:

  • انخفاض الولادات منذ عام 1985.
  • وارتفاع معدلات الوفيات أكثر من المعدل الأوروبي المتوسط.
  • إضافة إلى تزايد الهجرة الداخلية والخارجية.

ونتيجة ذلك، تراجع عدد السكان وارتفعت معدلات الشيخوخة، وهذا مسار ديمغرافي يُتوقع أن يستمر عقودا، وتقول كريستوفا إن “النتائج لا تظهر فورًا، بل تحتاج إلى وقت. ففي عام 2005، كان معدل الخصوبة لدى المرأة في بلغاريا الأدنى في الاتحاد الأوروبي عند مستوى 1.4، أما الآن فقد تجاوز المتوسط الأوروبي ليصل إلى 1.81”.

بالإضافة إلى أنه خلال 30 عامًا الماضية، وبسبب التقدم في الطب والرعاية الصحية، زاد متوسط العمر المتوقع بمقدار 10 سنوات، حسب قول الخبيرة.

ويُذكر أن جائحة كورونا تسببت في ظاهرة استثنائية، إذ فاق عدد العائدين البلغار إلى بلادهم عدد المغادرين، وذلك للمرة الأولى منذ عام 1989، كما بدأت بعض العائلات تفضّل مغادرة المدن الكبرى للعيش في القرى المحيطة، وانتقل بعضهم إلى الريف وأطلقوا مشاريع زراعية وسياحية عائلية، لكن هذه الظاهرة لا تزال محدودة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version