غزة – كان معبر رفح محطة أم ناجي الأخيرة ومسرح وداعها لابنها الصحفي صالح الجعفراوي، قبل أن تغادر في الأشهر الأولى من الحرب لتلقي العلاج من السرطان في دولة قطر. وقطعت الأم بوابة المعبر بجسدها، لكن قلبها ظلّ معلّقا على كتف ابنها، في عناق لم تكن تدري أنه الأخير. “أشوف وجهك على خير يمة”، كانت هذه آخر كلماتها لولدها صالح قبل أن يفترقا، فلم تكن تعلم أنها ستشاهده لاحقا جثة هامدة ملطخة بالدم، عبر وداع أبدي بارد على شاشة الهاتف.

قصص معلقة على بوابة الرفح

توالت على أم ناجي سلسلة من الفواجع خلال عامي الحرب، حيث أُسر ابنها البكر، ثم أُصيبت بالسرطان، فغادرت قطاع غزة للعلاج، قبل أن تستقبل خبري استشهاد ابنها الآخر، وتدمير منزلها. قصتها ليست استثناءً، بل هي جزء من حكايات مؤلمة متشابهة، تعيشها آلاف العائلات الفلسطينية التي وجدت نفسها مضطرة لمغادرة غزة، معلقة بين أمل العودة وجحيم الفقد.

وزير الخارجية بدر عبد العاطي يقول في تصريح متلفز إن تصريحات إسرائيل بشأن معبر رفح مجرد لغو ونشر للأكاذيب. هذا التصريح يعكس حالة الغضب والاستياء العربي من الإجراءات الإسرائيلية التي تعيق حركة الفلسطينيين وتزيد من معاناتهم.

عودة مؤجلة.. ورباط لا ينتهي

وفي صفقة تبادل الأسرى ضمن اتفاق وقف إطلاق النار عاد ابنها الأسير حرّا بعد 16 شهرا من سجون الاحتلال، لكن بوابة معبر رفح الموصدة في وجه الغزيين العالقين خارج القطاع، حالت دون تمكنها من ضمّ نجلها المحرر إلى صدرها، أو حتى من زيارة قبر ابنها الشهيد. وتتوق أم ناجي للحظة عودتها لغزة برغم ما فيها من وجع ودمار. وتقول للجزيرة نت “أنا غائبة عن غزة بجسدي، لكن حبها يجري في عروقي”، وترى أنها ترتبط بغزة ارتباطا بعقائدي لا بمكان أو ممتلكات، وتوضّح “من يعرف معنى الرباط في غزة لا يستطيع الفكاك منها، لذلك كنت دائما أدعو ألا يحرمني الله أجر الرباط فيها وإن كنت بعيدة عنها”.

ورغم ما تحمله المدينة من ذكريات موجعة بالنسبة إليها، لم تتصالح السيدة مع فكرة البعد عنها، حتى مع توفر حياة أكثر رفاهية خارجها، وتستعيد فضل غزة عليها قائلة “لقد أكلت من خيرها، وتربّيت فيها، وتزوجت وأنجبت، فكيف أنسى فضلها؟”. تحمل أم ناجي في قلبها حزنا كبيرا ولا تطلب أكثر من فتح المعبر لتتمكن من الجلوس عند قبر ابنها الشهيد والحديث معه والشعور بقربه، واحتضان ابنها الذي عاد من الأسر، ولتعانق أحفادها الجدد، وتعود إلى زوجها، وتستعيد ما تشتّت من حياتها، “كان حلمي نرجع نجتمع كاملين، لكن فراغ صالح سيبقى غصّة للأبد”.

“عقدة الناجي” وأمل العودة

“ليس للاستبدال” مثل أم ناجي، بقيت حياة الشاب شكري فلفل معلّقة عند بوابة المعبر منذ اللحظة الأولى لوداع قطاع غزة، وهو الذي اضطر لمغادرته قسرا في اليوم الذي لم يبقَ له ولعائلته أي مأوى سوى الرصيف، فخرج إلى مصر وهو يحمل معه “عقدة الناجي” كما يقول. ومنذ مغادرته، لم يعش شكري خارج غزة بقدر ما علّق حياته على أمل العودة، يستيقظ كل صباح باحثا عن خبر واحد: هل فُتح معبر رفح؟.

كان اندفاع شكري للعودة لافتا، خاصة أمام حجم الخسائر الفادحة التي تكبّدها هو ووالده، والتي تبدو في نظر أي إنسان سببا كافيا للاستقرار في الغربة. يقول شكري للجزيرة نت “أكثر من 90% من استثماراتنا العقارية دُمّرت، ومصنع الأثاث العائلي مُسح من الخارطة، ومتاجر المكملات الغذائية التي كنا نملكها لم يبقَ منها شيء”. ورغم كل ذلك، لا يتحدث شكري إلا بلغة الأمل “خسرنا كل شيء، لكننا سنعود إلى غزة وستُعمّر بأيدي أبنائها”. ويقول إن “الوطن ليس مكانا قابلا للاستبدال، ولا يعوّضه أي مكان في العالم”.

الغربة.. امتحان للأمومة والكرامة

وإذا كان فقدان البيت والعمل يدفع البعض للتمسّك بالعودة، فإن الغربة عند آخرين كانت امتحانا يوميا للأمومة والكرامة معا، فلم تخرج إيمان سلّام من غزة بحثا عن حياة أفضل، بل فرّت من تحت القصف، تحمل أطفالها وفتات ذكرياتها وشيئا من مدخرات عمرها، التي تحوّلت فجأة إلى وسيلة للنجاة، لا للحياة. خلّفت إيمان خلفها زوجها الصحفي في غزة، الذي اختار أن يبقى ليؤدي واجبه المهني في تغطية ما يجري في المدينة، حينما كانت هي تحمل ثقل الخوف عليه ووجع الغياب وتحمّل مسؤولية 4 أطفال.

وصلت إيمان إلى بلد لا تعرف فيه أحدا، بلا بيت، ولا عمل، ولا حماية، لكنها بقيت متمسكة برسالتها التعليمية، حيث كانت تعمل في إحدى المدارس التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين “أونروا”، ورغم وجع الغربة فإنها لم تتخلَّ يوما عن طلابها الذين بقوا في غزة، حيث شاركت في تعليمهم عن بُعد، وداومت على التواصل معهم لتمنحهم ما تبقى من حقهم في التعلم. لكن جهدها وجهد الكثيرين مثلها لم يؤخذ بعين التقدير. كما قالت، وفوجئ هؤلاء بمنحهم إجازة استثنائية قسرية غير مدفوعة لمدة عام كامل، لتجد نفسها مع 600 موظف فجأة بلا رواتب. وتقول إيمان “موظف الأونروا الذي خدم اللاجئين سنوات أصبح اليوم يقف في طوابير الجمعيات الخيرية ينتظر كيلوغرامين من اللحم المجمّد تحت حر القاهرة”. “أي كرامة بقيت بعد هذا المشهد؟” هذا الشقاء دفع إيمان لانتظار اللحظة التي يُسمح لها بالعودة لمدينتها، وتقول للجزيرة نت “كل ما أريده أن يلم شملي بزوجي في مكاننا ومدينتنا وأن نعود لحياتنا العادية، هل كان ذنبنا أننا نجونا من القصف كي نموت ببطء في الغربة بلا أفق لانتهائها؟”.

أمل في فتح معبر رفح

رغم الخسارات، لا يختلف الحال كثيرا عند من حملوا غزة في أعمالهم للعالم، ثم وجدوا أنفسهم عالقين خارجها، بعيدين عن أهلهم وحلمهم، تماما كالمخرج فريد خالد. تشير مصادر مطلعة إلى أن هناك توافقا مبدئيا على عدم فتح المعبر باتجاه واحد، إلا بعد الحصول على ضمانات واضحة تتيح عودة العالقين خارج قطاع غزة.

وفي هذا السياق، كشف المكتب الإعلامي الحكومي في غزة للجزيرة نت، أنّ عدد المسافرين من القطاع منذ بداية الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023 بلغ نحو 120 ألف مواطن، منهم قرابة 80 ألفا عالقون في مصر بانتظار السماح لهم بالعودة إلى القطاع. الحديث عن “هجرة جماعية” يندرج ضمن روايات الاحتلال عن التهجير القسري، والتمسك بالعودة هو تعبير عن ارتباط عميق بالجذور والوطن، وهو ما يجسده حال آلاف الفلسطينيين المعلقين على أمل فتح معبر رفح والعودة إلى ديارهم.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version