لم تعد الخصوصية حقا إنسانيا، بل سلعة تباع وتشترى، إذ حولت برامج تلفزيون الواقع تفاصيل الحياة اليومية إلى أرباح هائلة.

فكل لحظة ضعف أو خيانة صغيرة، وكل صراع عائلي أو سر خاص أصبح مادة عرض للجماهير، يشاهدها ملايين الناس وكأنها مسلسل مثير لا ينتهي.

وتقدم هذه البرامج كعروض ترفيهية، حيث يُعرض الأشخاص وهم يواجهون مواقف حياتية صعبة، مما يُثير فضول الجمهور ويزيد من نسب المشاهدة.

الفضيحة كسلعة إعلامية

في تقريره المعنون بـ”الاتجاهات الرئيسية 2025″، ذكر المركز الأوروبي للوسائط السمعية والبصرية أن الإعلام الأوروبي شهد تحولا جوهريا نحو تقديم الفضائح الاجتماعية كمنتج ترفيهي يُستهلَك جماهيريا.

وأشار التقرير إلى تزايد إنتاج البرامج الواقعية التي تعتمد على كشف الحياة الخاصة للأفراد، مثل الخيانة الزوجية والمشاكل العاطفية والاختلافات الأسرية، وتحويلها إلى مادة إعلامية دسمة تُعرض على الجماهير بهدف جذب الانتباه وزيادة نسب المشاهدة.

وأوضح التقرير أن هذا التحول يعكس مجموعة من العوامل المتشابكة:

  • أولها التغيرات في سلوكيات المشاهدين الأوروبيين الذين أصبحوا يفضلون متابعة هذا النوع من المحتويات الذي يعرض تفاصيل الحياة الشخصية للأفراد والعائلات، معتبرين ذلك نوعا من “الترفيه الحي”.
  • ثانيا، الربحية العالية المرتبطة بهذه البرامج تجعلها هدفا إستراتيجيا للقنوات والمجموعات الإعلامية، إذ يسهم الفضول الجماهيري في رفع نسب الإعلانات بشكل ملموس، مما يحول الفضائح إلى سلع اقتصادية لها قيمة سوقية كبيرة.
  • ثالثا، سهولة إنتاج مثل هذه البرامج، مقارنة بالإنتاجات الدرامية أو الأفلام الطويلة، مما جعلها خيارا مثاليا للقنوات الأوروبية لتقديم محتوى جذاب بسرعة وبتكلفة أقل.

وتعتبر “برامج الواقع”، خصوصا التي تُركز منها على الفضائح العائلية والعاطفية، ذات تأثير متشعب على المجتمع، فهي تسهم في إعادة تشكيل القيم المجتمعية المرتبطة بالخصوصية وحياة الفرد الخاصة.

ففي الوقت الذي تحقق فيه ترفيها للجمهور، فإنها تثير جدلا أخلاقيا حول مدى احترام حقوق الأفراد في الحفاظ على حياتهم الخاصة، كما تزيد من ميل المشاهدين إلى الفضول و”الاستهلاك الفضائحي” بطريقة قد تؤثر على العلاقات الاجتماعية التقليدية داخل الأسرة والمجتمع.

ومنذ مدة بدأت بعض القنوات الأوروبية التركيز، بشكل كبير، على إنشاء هذه النوعية من البرامج. ومن بين هذه القنوات تبرز قناة “آر تي إل” الألمانية التي قدمت مجموعة من البرامج الواقعية تستعرض حياة العائلات وعلاقات الأفراد الشخصية.

من ذلك برنامج “واقع العائلة” الذي يعرض الصراعات اليومية والتحديات العائلية، وبرنامج “مزارع يبحث عن زوجة” الذي يسلط الضوء على العلاقات العاطفية في المجتمعات الريفية، وبرنامج “مبادلة العائلة” الذي يعرض تبادل المنازل والمسؤوليات اليومية والتحديات بين عائلات مختلفة خلال فترة محددة، بهدف كشف اختلاف أساليب الحياة وأحيانا كثيرة الفضائح المتعلقة بالإهمال المنزلي.

Stuttgart, Germany - February 8, 2025: RTL Plus logo tv station streaming media library website on a mobile phone and computer screen in Stuttgart, Germany.

المحتوى الفضائحي اقتصاديا

ويعتمد نجاح هذه البرامج على تقديم توازن بين الإثارة والمصداقية، بحيث يشعر الجمهور بالارتباط بالمواقف المعروضة دون أن تتحول التجارب الشخصية للمشاركين إلى مجرد مواد للتسلية البحتة.

بالإضافة إلى ذلك، يتم توظيف وسائل التواصل الاجتماعي لتعزيز تفاعل الجمهور، حيث يمكن للمشاهدين متابعة الأحداث في الوقت الفعلي والتعليق عليها، مما يزيد من انتشار الفضائح ويجعلها جزءا من النقاش العام، وهو ما يعزز من قوة البرامج ويضاعف أثرها النفسي والاجتماعي على المشاركين والجمهور على حد سواء.

من الناحية الاقتصادية، يوضح تقرير المركز الأوروبي أن الفضائح العائلية والعاطفية تحولت إلى سلعة مربحة بشكل غير مسبوق، إذ لا تُسهم فقط في جذب الإعلانات المدفوعة، بل أيضا في رفع معدلات الاشتراكات في القنوات، وزيادة أعداد المتابعين عبر المنصات الرقمية.

ويؤكد التقرير أن هذا النموذج أصبح إستراتيجية واضحة للربح الإعلامي، حيث تحولت الخصوصية الفردية إلى عنصر من عناصر “السلعة الإعلامية” التي تُسوَّق بشكل منهجي.

وقد أدى التنافس بين القنوات الأوروبية في إنتاج هذه البرامج إلى زيادة مستوى الابتكار في تقديم المحتوى، إذ تحرص القنوات على تقديم أفكار جديدة ومثيرة في كل موسم، مثل دمج العناصر التفاعلية بين الجمهور والمشاركين، أو تنظيم لقاءات خاصة لمناقشة الأحداث بعد عرضها، بحيث يُصبح المشاهد جزءا من العملية التفاعلية الإعلامية.

ويعكس هذا التوجه فهما عميقا للبعد الاجتماعي والنفسي للفضائح، ويُظهر مدى تأثير الإعلام الحديث في تشكيل سلوكيات المجتمع الذي بات ينظر إلى هذه الفضائح كمادة إعلامية واقعية وليس مجرد اتجاه عابر.

ويرى المركز الأوروبي للوسائط السمعية والبصرية أن القنوات التي تنتج مثل هذه البرامج يجب أن تراعي التوازن بين الاقتصاد والمجتمع من خلال جذب الجمهور واحترام الخصوصية الفردية في آن واحد، إذ إن تجاوز الحرية الفردية قد يؤدي إلى عواقب اجتماعية ونفسية خطيرة، وقد يؤثر أيضا على مفهوم الخصوصية نفسه في المجتمعات الأوروبية.

الآثار النفسية والاجتماعية

رغم أن بعض البرامج تستخدم خبراء نفسيين لتقييم قدرة المشاركين على التحمل، فإن معظم التوصيات تطبق شكليا، وغالبا ما يتم تجاهلها أثناء التصوير. وتقلل العقبات العملية، مثل الحفاظ على سرية تفاصيل الإنتاج أو اتخاذ قرارات مفاجئة، من فاعلية التقييم النفسي، مما يجعل المشاركين عرضة للقلق والتوتر بعد انتهاء العرض.

فقد كشف تحقيق نشرته صحيفة الغارديان في 2024، مستندا إلى تحذيرات من جمعية علم النفس البريطانية، أن برامج الواقع التلفزيونية في أوروبا تعرّض المشاركين لأضرار نفسية واجتماعية طويلة الأمد.

وعندما يُستخدم ألم العلاقات العائلية أو الخيانة كعرض إعلامي، يخلق لدى المشاهد شعورا يشبه الانفصال، وهو ما ينتج عنه تضاؤل في التعاطف تجاه آلام المشاركين، ويعزز أيضا ثقافة استهلاك الألم كسلعة.

وتؤكد الغارديان أن عرض القصص التي تنطوي على مشاكل ومعاناة إنسانية تجعل المشاركين عرضة لضغوط نفسية مستمرة، بما في ذلك القلق والاكتئاب وفقدان الثقة بالنفس. فالمشاهد الذي كان مجرد متفرج أثناء البث يتحول إلى ناقد مباشر بعد انتهاء العرض، حيث تنتشر التعليقات والانتقادات السلبية على نطاق واسع عبر منصات التواصل الاجتماعي.

كما أن الطبيعة الفورية للتعليقات تجعل المشاركين يشعرون بأن حياتهم الخاصة أصبحت متاحة للتقييم العام بشكل دائم، مما يزيد من شعورهم بالانكشاف والاضطراب النفسي.

وفي ظل غياب متابعة فعلية ودعم مستمر من القنوات المنتجة، تصبح التجربة الإعلامية بالنسبة لهم عبئا طويل الأمد، يتجاوز مجرد لحظة التصوير، ويترك أثرا مستداما على حياتهم اليومية وعلاقاتهم الاجتماعية المستقبلية.

القناة الرابعة البريطانية نموذجا حيا

تُعد القناة الرابعة البريطانية (Channel 4) من أبرز القنوات التي تعرض برامج تلفزيون الواقع، ومن بين أهم برامجها التي أثارت انتقادات واسعة لهذا العام (2025)، برنامج “العيادة الحميمية” الذي تعرض فيه استشارات علاجية لأشخاص يزعم أنهم يعانون من مشاكل في حياتهم الجنسية.

وتقول الغارديان في تقرير لها نشر في فبراير/شباط 2025 إنه رغم تقديم “العيادة الحميمية” كبرنامج توعوي، فقد اعتبر غالبية المشاهدين أنه يتجاوز حدود الخصوصية ويكشف تفاصيل حساسة بشكل علني، وقد أثار جدلا واسعا حول أخلاقيات عرض مثل هذه المواضيع على التلفزيون.

ويركز برنامج “ارجع من حيث أتيت” على القناة البريطانية على الهجرة واللجوء ويهدف إلى تحدي مفاهيم المشاركين حول هاتين المسألتين عبر إرسالهم إلى مناطق تكثر فيها الحروب والنزاعات، لكن أسلوبه الاستفزازي والاعتماد على آراء المشاركين المثيرة للجدل أثار انتقادات من منظمات حقوق الإنسان والجمهور على حد سواء، وبسبب الجدل والتوتر الذي أحدثه البرنامج، تقرر إيقافه بعد موسم واحد فقط.

أما برنامج “جزيرة العذارى” فيرصد أقوال وأفعال 12 فتاة عذراء في جزيرة نائية. ورغم تقديمه كبرنامج يهدف إلى معالجة القضايا الحميمية لدى الشابات الصغيرات، فقد اعتبره العديد من النقاد استغلالا لخصوصياتهن وتعريضهن لمواقف محرجة. ورغم الانتقادات، حقق البرنامج نجاحا جماهيريا ملحوظا، مما دفع القناة إلى الإعلان عن موسم ثان.

قدمت القناة الرابعة البريطانية، في فترات سابقة، برامج ركزت فيها على الخيانات الزوجية والمشاكل العائلية، وأظهرت المشاهد الخاصة للأسر في مواجهة صدمات عاطفية أمام الكاميرات.

وقد نجحت هذه البرامج في زيادة نسب المشاهدة بشكل كبير، وهو ما مكن القناة من جذب فئات جديدة من المشاهدين الذين يتابعون حصريا هذه النوعية من البرامج بانتظام. وأكدت صحيفة الغارديان أن نجاح القناة الرابعة وسرعة انتشارها جاء على حساب القيم الأخلاقية للمجتمع.

ومن اللافت أن الإعلام العربي بدأ يقلد بشكل أعمى هذا النمط من البرامج، مع إعادة صياغتها بنسخ محلية تستهدف الجمهور العربي، مستفيدا من الفضول الجماهيري لتحقيق نسب مشاهدة مرتفعة.

ويعكس هذا التقليد ضعفا في الوعي الإعلامي الأخلاقي، ويطرح تساؤلات حول تأثير هذه البرامج على القيم الاجتماعية والنفسية للمجتمعات العربية، إذ تتحول الخصوصية إلى سلعة استهلاكية دون مراعاة للمعايير الأخلاقية أو النفسية.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version