مقدمة المترجم
تقول رواية شائعة عن إيلون ماسك إنه حاز اسمه الأول بفضل أبيه، الذي استلهمه من رواية لمهندس فضاء ألماني يحلم باستيطان المريخ. ولكن حكاية اسم “إيلون” هي آخر ما يُمكن يُفسر لنا عالم إيلون ماسك وشركته، إذ إن تفاصيل صعوده وهيمنته على عالم الفضاء على حساب وكالة ناسا، وثيقة الصلة بطفولته في جنوب أفريقيا العنصرية، والأهم أنها وثيقة الصلة بتراجع دور الدولة الأميركية ووكالاتها العلمية، مقابل هيمنة غير محدودة لبضع شركات كبرى أصبحت هي -لا المؤسسات في واشنطن– التي تضع خططا للبشرية، كما يشرح الكاتب الأميركي فرانكلين فور في مجلة “ذا أتلانتيك” الأميركية.
اقرأ أيضا
list of 2 itemsend of list
نص الترجمة
في البدء كان الاسم نبوءة أرشدت إيرول ماسك لأن يُطلق الاسم “إيلون” على ابنه الأكبر، أو هكذا زَعَم الأب. لم يكُن صاحب النبوءة سوى فيرنر فون براون، المهندس الألماني، الذي صنع الصواريخ لنظام هتلر في ألمانيا واستعان بأسرى معسكرات الاعتقال في الأشغال اليدوية، ورُغم ذلك اجتذبته الحكومة الأميركية، ثم نقلته في نهاية المطاف إلى قاعدة في ولاية ألاباما، وأسندت إليه مهمة إرسال البشر إلى مدار الكرة الأرضية ثم إلى القمر.
لطالما حلم فون براون بالمغامرة في أعماق المجرَّة، ففي عام 1949، قبل أن يبرز بوصفه الأب الروحي لبرنامج الفضاء الأميركي، وضع خيالاته على الورق في رواية ألمانية بعنوان “مارس بروجِكت” (مشروع المريخ)، واصفا فيها كيف يُمكن أن تسطير هيئة حُكم جديدة تكنوقراطية على الكوكب الأحمر، وتستطيع إنجاز أعظم الأمور وأكثرها جرأة، ثم يجلس على رأس هذه الدولة المريخية قائد أعلى يُعرَف باسم “ذي إيلون”.
أيا كانت حقيقة تلك القصة كما رواها الأب إيرول ماسك (الذي زَعَم أنه سمع عن الرواية في شبابه وقرَّر تسمية ابنه الأكبر إيلون بعدئذ)*، فإن الابن إيلون ماسك اقتنص حكاية نبوءة فون براون واعتبرها قَدَره.
فمنذ تأسيس سبيس إكس عام 2002، اتّخذ الرجل قراراته التجارية والسياسية وفي ذهنه هدف بعيد: اللحظة التي ينقل فيها الجنس البشري إلى وطن جديد، وكوكب على بُعد ملايين الأميال، حيث يعيش المستوطنون مُحصَّنين من ويلات الحرب النووية، وتغيُّر المناخ، والذكاء الاصطناعي الخبيث، وجميع الكوارث غير المُتوقَّعة التي ستسحق الحياة على الأرض حتما في رأيه.
بعيدا عن الكوكب العجوز المتهالك، ستزدهر يوتوبيا تحرُّرية، تحت السطوة الخيِّرة لـ”ذي إيلون”. هذا الإحساس بأنه على موعد مع القدر، قاد ماسك يوم 5 أكتوبر/تشرين الأول 2024 إلى تجمُّع انتخابي لدونالد ترامب في غرب ولاية بِنسلفانيا، مرتديا قميصا رماديا يحمل شعار “احتلال المريخ” (OCCUPY MARS)، إذ قال للحشود إن على ترامب أن “يفوز لحماية الديمقراطية في أميركا”.
بفضل تحالف إيلون ودونالد، حاز ماسك لفترة سلطات لم ينلها سوى قِلَّة من الأميركيين غير المُنتخبين في تاريخ البلاد، فبصفته رئيس “قسم الكفاءة الحكومية”، دمَّر ماسك قطاعات واسعة من الجهاز الفيدرالي، وشَرَع في إعادة تشكيل بنية الدولة، وبدا أن الرجل يؤدي دور النسخة الأرضية من “ذي إيلون” ولو لعدة أشهر مضطربة.
ولكن بعد خمسة أشهر من بدء الولاية الثانية لترامب، اصطدم تضخُّم شعور ماسك بمكانته في التاريخ بأنانية مَن رعاه ابتداء، فتهاوت العلاقة بين الرجليْن، وبدأ كل منهما يُهدِّد بتدمير الآخر.
فقد تعهَّد ماسك بأن سفنه لن تنقل الأميركيين من الآن فصاعدا، ولا المؤن التي يعتمدون عليها، إلى محطة الفضاء الدولية. أما ترامب فهدَّد عقود “سبيس إكس” الفيدرالية التي تُقدَّر قيمتها بحوالي 22 مليار دولار بحسب تقارير عدة.
وبعد أسابيع، ظل الرجلان يتبادلان الضربات، وفي يوليو/تموز الماضي، فكَّر ترامب بصوت عالٍ في احتمال ترحيل ماسك، المولود في جنوب أفريقيا، وأعلن الأخير بخُبْث أنه سيُموِّل حزبا ثالثا جديدا.
كان كلا الرجلين -على الأرجح- يُراوِغ الآخر، فما زال ماسك بحاجة إلى الحكومة الأميركية لتمويل مشاريعه الكبرى، والحكومة الأميركية بدورها بحاجة ماسَّة إلى إيلون ماسك. ففي العام الماضي، كانت 95% من الصواريخ التي أُطلِقَت في الولايات المتحدة تابعة لشركة “سبيس إكس”، أما ناسا فلم تكن سوى ضيف عابر.
لقد أغرق ماسك مدار الأرض المنخفض بأقمار صناعية (قرابة 8 آلاف) أصبحت لا غِنى عنها لاتصالات الجيش الأميركي، ولرقابة الحكومة على القوى المُعادية لواشنطن، وحتى لو دفع ترامب نحو إزاحة ماسك لما استطاع، فما من منافس قادر على أن يحل محل الخدمات التي تُقدِّمها شركاته بسهولة.
رحلة القمر ويوتوبيا المريخ
إن تفوُّق ماسك على ناسا حكاية أميركية بامتياز. قبل جيل واحد، كانت ناسا هي دُرّة تاج الحكومة الأميركية. فقد تأسست عام 1958 لتُظهر تفوُّق نمط الحياة الأميركي، ونجحت في ذلك نجاحا باهرا. وفي خِضم نجاحها في إيصال البشر إلى سطح القمر، غَدَت ناسا رمزا لكفاءة أميركا وكبريائها، وبرهانا على أن أميركا وطِئت المستقبل بأقدامها من دون بقية الأمم.
كان رُوَّاد ناسا رعاة بقر القرن العشرين، وكانوا ينالون الإعجاب حتى في بقاع العالم التي اعتادت أن تمقُت الأميركيين. صعدت أطقم “أبوللو” إلى السماء نيابة عن “الإنسانية جمعاء”، وهي عبارة وردت في القانون الذي تأسست بموجبه ناسا، كما نُقِشَت على اللوحة التي تركتها بعثة أبولو 11 على سطح القمر. حتى مهندسو ناسا، بربطات أعناقهم النحيلة وأكمامهم المرفوعة، صاروا مادة خام لأساطير هوليوود.
لقد وُلدت ناسا في ذروة إيمان الليبرالية بالحكومة، ويعكِس انحدارها مؤخرا أفول ذلك الإيمان. مع فقدان الولايات المتحدة ثقتها بقدرتها على إنجاز القفزات الكُبرى، فإنها لجأت إلى ماسك بوصفه مخلِّصا يُمكن أن ينتشلها، ثم سلَّمت له الأمر في النهاية. ليست تلك القصة صفحة من صفحات “رأسمالية المحاسيب”، بل حكاية عن إدارة حسنة النية، من كلا الحزبين، سَعَت وراء طموحات ضخمة بدون رؤية أو كفاءة أو تمويل لتحقيقها.
إذا كانت الكفاءة أسمى أهداف السياسة، فإن كل الأموال التي أنفقتها الحكومة على سبيس إكس تبدو منطقية. حتى أكثر منتقدي الشركة شراسة يعترفون بعبقريتها الهندسية، ويُصفِّقون لنجاحها في خفض تكاليف الإطلاق (بخلاف كثير من المتعاقدين العسكريين، تتحمَّل سبيس إكس إلى حدٍّ كبير كلفة إخفاقاتها).
ولكن في سياق دعم ماسك في خصخصة منفعة عامة، سمحت الحكومة لملياردير واحد بأن يمتلك نفوذا مُفرِطا، وبكبسة زر واحدة صار ماسك يمتلك القدرة على إطفاء مجموعات من الأقمار الصناعية، وعزل أمة بأسرها، وإعاقة عمليات جيش كامل.
وبعد أن صار ماسك رجلًا لا غِنى عنه، هيمنت قِيَمُه على تطلُّعات أميركا في الفضاء، مما أفرغ مهمة ناسا القديمة من أهدافها المنشودة (الأكثر تعبيرا عن تطلُّعات الإنسانية جمعاء كما يُفترض، على الأقل مقارنة بشركة خاصة يملكها ملياردير)*.
لقد كان الفضاء يوما ميدان تعاون يتجاوز المصالح التجارية والمساعي العسكرية، أما اليوم فقد تحوَّل إلى ساحة للمغامرة العسكرية، ومصدرا للمواد الخام التي تأمل الدول نهبها، وحَلَّ محل السعي الإنساني وراء أسرار الكون هوسٌ بالقوة الصاروخية.
من جهته، يريد ماسك أن يستخدم نفوذه ليفرض على الأمة الأميركية مُغامرة بعيدة المنال هي استعمار المريخ، ثم يغتني منها بينما يستنزف خزائن الحكومة الأميركية. حيثما نشأ فراغ خلَّفه تلاشي طموحات الأمة والدولة في أميركا، ترسَّخت أوهام ماسك عن موعده مع القدر.
ناسا.. العصر الذهبي
دشَّن جون كينيدي حملته الرئاسية واعدا بـ”أفق جديد” في مطلع الستينيات، لكنه في الحقيقة لم يكن يكترث كثيرا بالأقمار الصناعية أو بروّاد الفضاء. فقبل أن يطلق حملته بقليل، أسرَّ إلى أحد العلماء أثناء احتسائه كأسا من النبيذ في مدينة بوسطن أنه يعتبر الصواريخ مَضيَعة للمال. وبعد بضع سنوات، وفي محادثة مُسجَّلة في البيت الأبيض، اعترف الرجل صراحة بأنه “ليس مهتما بالفضاء إلى هذا الحد”.
لكن بحلول الشهر الثالث من رئاسته، كان كينيدي على موعد مع ضربة مُذِلَّة. ففي 12 أبريل/نيسان 1961، أطلق السوفيات رائد الفضاء يوري غاغارين في مدار للأرض لمدة 108 دقائق، فصار أول إنسان يترك سطح الأرض.
وقد أشادت صحيفة نيويورك تايمز بذلك ووصفته بأنه دليل على “تفوُّق السوفيات”، ثمَّ تعزَّز الانطباع بعدم كفاءة الأميركيين بعد خمسة أيام، حين أخفقت قوة من المدعومين من وكالة المخابرات المركزية في غزو كوبا، في مغامرة خُلِّدت في الذاكرة باسم “خليج الخنازير”.
في خضم سعيه المحموم لاستعادة زمام الأمور، تحوَّل كينيدي فجأة إلى مُتحمِّس لأكثر الخطط جرأة على أرفف وكالة ناسا. ففي 21 أبريل/نيسان، بُعَيْد استسلام مقاتليه بالوكالة للشيوعيين في كوبا، وقف كينيدي أمام مؤتمر صحافي قاسٍ، ورد على سؤال حول تفوُّق السوفيات النسبي على برنامج الفضاء الأميركي قائلا بتلقائية: “إذا كان بإمكاننا أن نبلغ القمر قبل الروس، فينبغي أن نفعل ذلك”.
بعد شهر، ألقى كينيدي خطابا أمام جلسة مشتركة للكونغرس دشَّن فيها رسميا برنامج أبولو. ولكن حتى في تلك اللحظة، كان كينيدي يخفي شكوكا شخصية حول كُلفة المشروع، وهو شعور لربما غذَّاه ما قاله والده نفسه ذات مرة، من أن وعد هبوط رائد فضاء على سطح القمر بحلول عام 1970 يُعد تبذيرا صارخا، ويُقال إن أباه استشاط غضبا حين علم بالأمر، وقال حينها: “اللعنة، لقد علَّمت جاك أفضل من ذلك!”.
عندما عبَّر كينيدي عن طموحاته، وقع في أسر فكرة تثبت نفسها تلقائيا، حيث قال: “إننا نختار الذهاب إلى القمر في هذا العقد.. لا لأنها مهمة سهلة، بل لأنها صعبة، لأن هذا الهدف سيساعد في تنظيم وقياس أفضل ما لدينا من طاقات ومهارات”. كلَّف كينيدي الحكومة الأميركية إذن بتنفيذ مهمة هندسية أصعب من أي مهمة عرفناها في تاريخ البشرية، لا لسبب أسمى سوى إثبات إمكانية إنجازها. وكانت تلك الروح هي مُحرِّك ليبرالية “الآفاق الجديدة”.
من منظور اللحظة الحالية، حيث أصبح إيمان الرأي العام بالحكومة واهيا، من المُدهِش التفكير في حجم الاستثمار الطائش الذي سمح الأميركيون لواشنطن بتكريسه من أجل مشروع بلا عائد ملموس يُذكَر، سوى السعي وراء الهيبة العالمية في سباق صفري مع الاتحاد السوفياتي. في ذروته، وظَّف مشروع أبولو حوالي 400 ألف عامل، وبلغت كلفته المُذهِلة 28 مليار دولار، أي ما يزيد على 300 مليار دولار بقيمة اليوم.
بمقاييس كينيدي نفسه، كان أبولو انتصارا ذا شأن عالمي تاريخي. فقد ساعد مدير ناسا الأسطوري جيمس ويب ونوابه في صياغة فلسفة جديدة كليا لإدارة المؤسسات العملاقة، وهي فلسفة عُرِفت بعدها باسم إدارة الأنظمة. فقد كانت ناسا تدير مهندسيها إدارة تفصيلية دقيقة، مُدركة أن ذرة غبار غير مرغوب فيها قد تُحدِث كارثة، وكانت في الوقت نفسه تمنحهم هامشا واسعا للابتكار.
ساعدت المُخطَّطات المُعقَّدة في تنسيق عمل عشرات الفرق المنتشرة بين الجامعات والشركات والمختبرات الحكومية. ورغم اعتمادها على تقنيات غير مُجرَّبة، حققت ناسا سجلا شبه مثالي في السلامة، لم يُلطِّخه سوى حريق عام 1967 الذي أودى بحياة ثلاثة روَّاد فضاء داخل كبسولتهم أثناء استعدادهم لأول مهمة مأهولة في برنامج أبولو. وحتى حينها، ظلَّت ثقافة ناسا الصارمة تدفعها بلا هوادة نحو الهدف.
بعكس السوفيات، الذين سعوا إلى تشكيل تصوُّرات الرأي العام عبر التحكُّم المُفرِط في تصوير إنجازاتهم والإعلان عنها، اتخذت ناسا قرارا محفوفا بالأخطار وتركت مشروعها يتكشَّف على الهواء مباشرة. وقد أصبحت رحلات أبولو من أكثر المشاهد إثارة في تاريخ التلفزيون، وبحسب أحد التقديرات، تابع خُمس سكان الكوكب مباشرة خطوات نيل أرمسترونغ على سطح القمر، وهو رقم مدهش للغاية بالنظر إلى محدودية الانتشار العالمي للتلفزيون عام 1969.
كان برنامج الفضاء آنذاك تجسيدا للبراعة والثقة بالنفس. وكتب الرئيس الأميركي ليندون جونسون في مذكراته حينها: “كان الفضاء المنصة التي انطلقت منها الثورة الاجتماعية في ستينيات القرن العشرين، لأننا إذا كنا قادرين على إرسال رجل إلى القمر، فإننا على يقين بأننا ينبغي أن نتمكن أيضا من إرسال الفتية الفقراء إلى المدارس، وتوفير رعاية طبية لائقة للمُسنين”. لقد كان أبولو نموذجا للتغيير الاجتماعي المُخطَّط وللحوكمة التكنوقراطية، ومثالا يُحتذى به لعالم الغد.
نيكسون يضع حدّا لحُمَّى الفضاء
كان أمهر البيروقراطيين آنذاك هم صُنَّاع النجاح. فقبل سنوات من رفع أرمسترونغ العلم الأميركي على القمر، كانت ناسا قد بدأت تُعدُّ خططا لمرحلة ثانية من أبولو. ولمَّا حانت اللحظة الساحرة للهبوط على القمر، اجتمعت الوكالة مع نائب الرئيس الأميركي سبيرو أغنيو لتكشف عن المرحلة التالية من مستقبل أميركا في الفضاء.
في يوم 4 أغسطس/آب 1969، بعد 15 يوما من قفزة أرمسترونغ الكُبرى، عرضت ناسا على إدارة نيكسون رؤيتها لإرسال البشر إلى المريخ، ولإنجاح العرض، أحضرت ناسا مهندسها الأشهر فون براون ليتولَّى الحديث.
لم يكن المشروع الذي أرادوا تسويقه وقتها سوى الرؤية التي رسمها المهندس الألماني الأصل في روايته قبل عقود. وقالت ناسا إنها تأمل الهبوط على المريخ بحلول عام 1981 عن طريق مركبتين كوكبيتين تعملان بالطاقة النووية، تحمل كلٌّ منهما ستة أفراد.
ولكن في ذروة مجد ناسا، لم يستطع فون براون وزملاؤه أن يكبحوا أنفسهم، فأضافوا إلى قائمة أمنياتهم إنشاء قاعدة على سطح القمر، ومحطة فضاء، ومكوكا لنقل البشر. ولإرضاء غرور كانت ناسا في أمسِّ الحاجة إليه للوصول إلى مبتغاها، قال فون براون إنه يريد إرسال ريتشارد نيكسون نفسه إلى مدار الأرض ضمن احتفال الأمة الأميركية بمرور مئتي عام على استقلالها، عام 1976.
أحب أغنيو الفكرة، أما نيكسون فلم تعجبه. لا بد أن الرئيس الأميركي حينها قد كره فكرة ضخ كل هذه الأموال في برنامج يرتبط ارتباطا وثيقا بذكرى خصمه القديم جون كينيدي. وفضلا عن ذلك، فإن لحظة التكنوقراطية اللامحدودة كانت قد انقضت في ذلك الوقت، بعد أن أطاح بها العجز المالي والتحوُّل الحاد في المزاج العام. ففي خضم الكارثة المستمرة في فيتنام، فقد الرأي العام إيمانه بالمشاريع العظمى التي خطَّط لها “العباقرة الصغار”، وفي تلك الأثناء، كان قادة حركة الحقوق المدنية يُندِّدون بتحويل النفقات الكُبرى بعيدا عن البرامج الاجتماعية.
وقد شاعت بفضل عالم الاجتماع أميتاي إتزيوني عبارة تُجسِّد هذا التملمُل المتزايد هي “خدعة القمر” (moon-doggle)، في إشارة إلى مشاريع الفضاء التي تستهلك أموالا ضخمة بلا طائل. وفي وقت كان نيكسون يأمل فيه شدَّ الأحزمة وترشيد الإنفاق، اقترحت ناسا برنامجا بكلفة سنوية تصل في النهاية إلى 10 مليارات دولار، ويُنفَّذ على مدى أكثر من عقد، أي بكلفة تفوق بكثير كلفة أبولو.
أساء فون براون وزملاؤه قراءة الموقف بشكل فادح، وفي النهاية، وافق نيكسون على منح ناسا ميزانية سنوية تزيد قليلا على 3 مليارات دولار فقط، واستبعد كل عناصر الخطة باستثناء محطة الفضاء والمكوك الفضائي، الذي كان نظاما قابلا لإعادة الاستخدام يُفترض أن يَحدّ من تكاليف السفر إلى الفضاء في المستقبل.
ولكن إلى أين كان يُفترض أن يتجه المكوك؟ مع اختتام أبولو بعثاتها الأخيرة، التي أُلغيت ثلاث منها أصلا، لم يعد لدى ناسا وجهة واضحة، وبدأ كثير من القادة الذين قادوا الوكالة أثناء سباق الفضاء، ومن بينهم فون براون، ينتقلون إلى القطاع الخاص.
في أثناء برنامج أبولو، كان مهندسو الحكومة حاضرين في كل مكان، متمركزين في مصانع الجهات المتعاقدة معهم؛ وكانوا يتقنون التفاصيل الدقيقة. ولكن ذلك تغيَّر في عهد المكوك الفضائي، مع تقلُّص الميزانيات وتراجع التطلعات، وبدلا من التدقيق في عمل المتعاقدين، بدأت ناسا تفوِّض إليهم الأمر، مانحة شركات الطيران والفضاء نفوذا أكبر في تصميم المركبات، بل إنها سمحت لهم بامتلاك حقوق الملكية الفكرية الأساسية للمركبات وأجزائها.
وبما أن المتعاقدين كانوا يفهمون التفاصيل الدقيقة ولم يكن مسؤولو ناسا كذلك، أصبح هؤلاء المسؤولون مترددين في الدفع نحو الابتكار، مشلولين بالخوف من أن يُلقى عليهم اللوم في حال أخطأ المتعاقد. وبهذا، ترسخت ذهنية بيروقراطية، أولا ببطء، ثم بشكل أوضح بعد كارثة تشالِنجر عام 1986 (حين تحطَّم مكوك فضائي بعد 73 ثانية من إطلاقه وأودى بحياة طاقم من 7 رواد فضاء)*.
رسم فريمان دايسون، عالم الفيزياء الفلكية صاحب الرؤى المهمة، تمييزا قاسيا بين ما أسماه ناسا الورقية، التي كانت إلى حد كبير مجرد خيال للذاكرة والثقافة الشعبية، وناسا الحقيقية، المنظمة المتصلبة التي قامت مقامها. وكانت تلك الانتقادات مشروعة وإن كانت ظالمة بعض الشيء؛ ففي ظل رحلات الفضاء المأهولة التي جذبت الاهتمام والمكانة، واصلت ناسا السعي إلى تحقيق إنجازات في مجال الروبوتات والفيزياء الفلكية، مثل مهمة غاليليو إلى كوكب المشتري. ولكن من دون وجود بشر على متنها، افتقدت تلك المهمَّات رومانسية العصر الذهبي لناسا.
ماسك وعودة “مارس بروجِكت”
في صيف عام 2001، جلس إيلون ماسك في غرفة فندق بمقاطعة مانهاتن الشهيرة في مدينة نيويورك، وفتح حاسوبه المحمول، وبدأ يتصفح الموقع الرسمي لوكالة ناسا. كان ماسك قد عاد لتوِّه من حفلة في منطقة لونغ آيلاند الساحلية في المدينة، وفي طريق العودة قال لأحد أصدقائه: “لطالما رغبت في أن أفعل شيئا في الفضاء، لكنني لا أظن أن هناك ما يستطيع المرء أن يفعله منفردا”.
كان ماسك غنيا نوعا ما وشاعرا بالملل إلى حدٍّ ما. فبعد فترة قصيرة قضاها مديرا تنفيذيا للشركة التي أصبحت لاحقا باي بال، أُقصي بقرار من مجلس إدارتها، رغم بقائه بصفته أكبر مساهم فيها. كان ماسك قد اشترى طائرة عسكرية تشيكوسلوفاكية، وقضى مئات الساعات في قيادتها، لكن ذلك لم يستحوذ على اهتمامه. لقد كان يبحث عن مغامرته التالية.
نشأ ماسك معجبا بأدب الخيال العلمي، غارقا في الهواجس الكونية لإسحاق عظيموف وروبرت هاينلاين. غير أن واقع استكشاف الفضاء لم يكن موضوعا درسه بعمق، إلى أن تصفَّح موقع وكالة ناسا ولمعت عيناه ذات ليلة، واعتقد أنه سيجد خططا لبعثات وشيكة إلى المريخ، وقال لكاتب السير الذاتية المعروف والتر إيزاكسون: “ظننت أن الأمر لا بد أن يكون قريبا، لأننا ذهبنا إلى القمر عام 1969، فلا بد أننا على وشك الذهاب إلى المريخ”. ولكن لم تكن هناك أي خطة من هذا النوع، ومن ثمَّ قرَّر ماسك أن تكون مهمته هي دفع البشرية قدما بنفسه.
جعلت تلك اللحظة من ماسك رجلا واقعا في أسر فكرة مُبتذلة نوعا ما. فالفضاء يجذب الأثرياء الهواة، وهو أقصى تجسيد ممكن للثراء والقوة، مقارنة بالسيارات الرياضية واليخوت.
ولأن السفر إلى الفضاء مُترسِّخ في الثقافة الأميركية بوصفه أصعب مسعى بشري، ويتطلب موارد هائلة، فهو يحظى باحترام ثقافي. وبالنسبة لماسك، الذي تعرَّض للتنمُّر من زملائه في المدرسة ومن والده نفسه، فإن الفضاء أتاح له الإمساك بالعالم من تلابيبه وإعلان عظمته فيما يُشبه حكايات الانتقام الكلاسيكية.
لم يكن ماسك مخطئا بشأن الحالة المتدهورة لوكالة ناسا. فقد تحدَّث مُقدِّم برامج العلوم الشهير نيل ديغراس تايسون عن البرنامج الكئيب لمكوك الفضاء ساخرا ذات مرة قائلا إن مركبة ناسا الرئيسية “ذهبت بجرأة إلى حيث ذهب البشر مئات المرات من قبل”. كانت 135 مرة على وجه الدقة، وكانت هذه المهمَّات أساسية في بناء تِلسكوب هابل الفضائي والمحطة الفضائية الدولية، لكنها لم تتجاوز قط الحدود المألوفة لمدار الأرض المنخفض.
وحتى في وقت كانت فيه روسيا تخسر الحرب الباردة، فإنها كانت تفوز بالفصول الأخيرة من سباق الفضاء، إذ كانت تدير برنامجا أكثر إحكاما وأكثر نشاطا. والحقيقة أن ماسك، عندما بدأ يفكر في إطلاق الصواريخ، ذهب إلى روسيا على أمل شراء صواريخ مستعملة؛ وقد استلزم ذلك حضور ولائم غارقة في الفودكا مع البيروقراطيين الروس الذين تطلَّعوا لاستنزاف ثرواته، حتى خلص ماسك في النهاية إلى أن تصنيع صواريخه بنفسه سيكون أوفر. ولذا، في عام 2002، أسس ماسك شركة سبيس إكس.
الشركة التي قزَّمت ناسا
كان ماسك رجل مبيعات، عازما على جعل واشنطن تلتفت إليه وتضخ الأموال في شركته الناشئة، المتمركزة في مستودع بضاحية من ضواحي مدينة لوس أنجلوس، التي لم تكد تبدأ تجميع صواريخها الأولى. في عام 2003، نقلت الشركة صاروخا بارتفاع سبعة طوابق إلى واشنطن، وركنته أمام متحف الطيران والفضاء في شارع “المول الوطني” الشهير، وسرعان ما منحته القوات الجوية ووكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة عدة ملايين من الدولارات لمساعدة سبيس إكس على النمو.
ثم خصصت ناسا للشركة مبلغ 278 مليون دولار عام 2006 دفعةً أولى من برنامج جديد سُمِّيَ “الخدمات التجارية للنقل المداري”، وقد حصل ماسك على هذه المِنَح رغم أن سبيس إكس لم تكن قد نجحت بَعْد في إطلاق أي صاروخ.
لأعوام طويلة، اعتمدت وكالة ناسا على ذات المجموعة القديمة من المقاولين الكبار: نورثروب غرومَّان، روكويل، بوينغ. وكانت هذه شركات جامدة، وتُعَد من ركائز في المُجمَّع الصناعي العسكري، وشكَّلت علاقة اعتماد مُتبادلة مع الحكومة، وكانت لها بيروقراطياتها الخاصة، وغالبا ما كانت تكاليف مشروعاتها تتضخم وتؤدي أداء أقل من المتوقع.
كان مسؤولو ناسا يعرفون إخفاقات هذه المؤسسات ويشعرون بحاجة ماسة لتغيير المعادلة، وكان برنامج المكوك الفضائي قد أوشك على الانتهاء.
ولكن ما الذي أمكن أن يحلَّ مكانه؟ لقد كانت هناك محطة فضائية تدور في المدار المنخفض للأرض، ولم يزل بها رواد فضاء ينتظرون إعادة الإمداد. ومع مطلع القرن الحادي والعشرين، أصبح الابتكار المعادلة السحرية التي ردَّدها المستثمرون وفُتِن بها الإعلام، وكانت مسألة وقت قبل أن تبدأ الحكومة في مطاردة الفكرة الرائجة نفسها، مُراهِنةً على أن مجموعة جديدة من رواد الأعمال ستظهر في المشهد لتؤسس شركات قادرة على تحطيم جميع النماذج القديمة.
في عام 2010، ألغى باراك أوباما برنامج “كونستيليشن” الذي أقرَّه سلفه جورج بوش الابن من أجل العودة إلى القمر. وكانت ناسا بصدد الخروج من مجال امتلاك المركبات والصواريخ الفضائية، وبدأت تستأجر تلك المملوكة لشركات خاصة.
وعندما زار أوباما مركز كينيدي للفضاء كي يُعلن هذا التغيير في المسار، شاهد أحد صواريخ “فالكون 9” المملوكة لماسك وهو على منصة الإطلاق، والتقط المُصوِّرون حينها صورا للرئيس الشاب والملياردير الصاعد وهما يتجوَّلان معا، في مشهدٍ كان بمثابة تمرير الشعلة إلى ماسك.
ورغم أنه لا يُعرَف عادة بسخائه في تقاسم الفضل في نجاحاته، فإن ماسك نفسه يعترف بأن إدارة أوباما أنقذت سبيس إكس. فبينما أخذت الشركة تحرق الأموال وتشاهد صواريخها التجريبية تتحطَّم، بدا أنها على وشك الانهيار. ولكن التغيير في السياسة فتح لها مَعينًا لا ينضب من التمويل.
وفي أحلك لحظات سبيس إكس، التي وصفها ماسك بأنها “أسوأ سنة في حياته”، منحته ناسا عقدا بقيمة 1.6 مليار دولار لنقل البضائع إلى محطة الفضاء الدولية. تنفَّس ماسك الصعداء وشعر بالنشوة، وغيَّر كلمة مرور حاسوبه إلى “أي لوف ناسا” (ilovenasa)، أي أنا أحب ناسا.
من بين جميع الشركات الناشئة في عصر رحلات الفضاء التجارية، كانت سبيس إكس الأجدر بالنجاح، فقد كان لدى ماسك عين ثاقبة في اصطياد المواهب الهندسية، وكان يطرح رؤية جريئة جذبت شبانا مثاليين. وبقوة صبره، كان يشكك في المُسلَّمات ويخفض التكاليف بلا هوادة، حتى لو اضطر إلى شراء أدوات من موقع تسوُّق إلكتروني لضبط اتجاه الصواريخ.
ورغم هذه القوة، لم يكن بوسع سبيس إكس أن تنتصر في هذا العصر الجديد، لأن فكرة تحويل الفضاء إلى ساحة تجارية كانت معيبة في جوهرها. فلم يكن هناك سوق حقيقي لإطلاق الصواريخ، أو لاستخراج المعادن من الكويكبات، أو لتصميم البدلات الفضائية. لم يكن هناك سوى زبون واحد بميزانية محدودة لمثل هذا النوع من المنتجات الباهظة الثمن: الحكومة الأميركية.
وذلك الإدراك هو ما دفع ماسك في النهاية إلى مسار أعمال آخر، ففي عام 2015، أسَّس ماسك شركة ستارلينك، فانطلقت صواريخه تحمل أقمارا صناعية إلى المدار لتزويد الأرض بخدمات الإنترنت، وهو نشاط تجاري أكثر ربحية بكثير.
حوَّلت ستارلينك شركة سبيس إكس إلى عملاق. فبما أن سبيس إكس كانت تطلق الصواريخ باستمرار، وليس من أجل ناسا وحدها، فقد كانت تحصل على بيانات ورؤى جديدة لا تُقدَّر بثمن، مما سمح لها بإنتاج صواريخ أرخص وأفضل.
ولأن أكثر ما يثير حماسة المهندسين هو الإطلاق الفعلي للأشياء، فقد استنزفت الشركة المواهب من منافسيها. ولم يكن هدف ماسك أن يحقق الاحتكار بمعناه النمطي، فقد قال لإيزاكسون: “إن الوصول إلى المريخ هو ما حفَّز كل قرار في سبيس إكس”.
فعندما أنشأ ستارلينك، فعل ذلك لأنها ستمدُّه برأس المال اللازم لبناء صواريخ قوية بما يكفي لحمل البشرية إلى المريخ.
ماسك.. ابن جنوب أفريقيا البيضاء
ماسك، الذي يصف نفسه بأنه “مسيحي ثقافيا”، ليس شخصا متدينا على نحو خاص. ولكن مخيلته مشدودة إلى فكرة يوم القيامة، وإمكانية وقوع “حدث انقراض للبشر”، لأن تجاربه في الطفولة دفعت بهواجسه في الكِبَر نحو التفكير فيما هو كارثي. ففي جنوب أفريقيا، شبَّ إيلون وسط تفسُّخ نظام الفصل العنصري، ذلك النظام الذي كان قد وَعَد يوما بحماية طبقته العرقية. وكانت عائلته، مثل مجتمعه، تتشظَّى في ذلك الوقت.
وحين كان في الثامنة، انفصل والداه، وهو يتذكر والده اليوم بوصفه شخصية وحشية، فقد قال لمجلة رولينغ ستون: “كل شر تقريبا يمكن أن يخطر في بالك فعله أبي”. (وقال إرول ماسك للمجلة إنه لم يهدد أو يؤذِ أحدا عمدا في حياته قط، وأوضح لاحقا أن تعليقات ابنه كانت تتعلق بخلافاتهما السياسية وقتها).
بالنظر إلى هذا الاضطراب وغياب السلطة الموثوق بها في سنواته الأولى، ليس غريبا أن يخشى ماسك الأسوأ. لقد وجد ماسك ملاذا من قسوة العالم في صفحات روايات الخيال العلمي، لكن رؤى نهاية العالم تمثل السمة الجوهرية لذلك النوع الأدبي، والقصص التي التهمها غالبا ما كانت تُضخِّم رُعبه من أن يعيش لحظات كتلك.
بحث ماسك عن أعمال تمنحه سببا لليأس ورؤية للتجاوز في آن واحد. وكانت روايات عظيموف تزخر بأبطال عقلانيين إلى أقصى حد، كثير منهم مهندسون، أنقذوا البشرية بإنشاء مستعمرات فضائية تبدأ منها الحضارة من جديد. وقد استلهم ماسك تصوره لذاته من هؤلاء الأبطال.
منذ سن مبكرة، استحوذت فكرة استعمار المريخ على ذهن ماسك. وفي محطات مختلفة من مسيرته، وصف شركاته بأنها تسهم في ذلك المشروع الكلي. فشاحنات “تِسلا سايبرتراك” هي مركبات يمكن تكييفها لعبور تضاريس المريخ، وألواحها الشمسية قد تكون مصدر طاقة محتملا لمستعمرة مستقبلية هناك.
بل يُقال إنه ادعى أن منصته للتواصل الاجتماعي إكس، يمكن أن تكون تجربة في الحوكمة اللامركزية لاختبار كيف يمكن لبؤرة استيطانية على المريخ أن تستخدم التوافق أساسا للتشريع، لأنه يتصور حكومة بأدنى حد ممكن من السلطات على الكوكب الأحمر.
في سبيس إكس، بدأ موظفو ماسك برسم ملامح الحياة على المريخ. فهناك فريق يعمل على تصميم مساكن ومساحات جماعية، وقد أطلق ماسك بالفعل على أول مدينة مريخية اسم “تِرمينوس”، تيمُّنا بمستعمرة كوكبية في روايات إسحاق عظيموف. وهناك أيضا فِرق تُطوِّر بدلات فضائية مُهيَّأة لبيئة الكوكب القاسية وتستكشف إمكانية التكاثر البشري هناك. (وحين نشرت نيويورك تايمز تقريرا عن هذه الفِرَق، نفى ماسك وجودها).
لا يوجد تحدٍّ هندسي في تاريخ البشرية يوازي جرأة محاولة جعل المريخ مكانا صالحا لعيش البشر. وقد وصفت غوين شوتْويل، رئيسة شركة سبيس إكس ومديرتها التنفيذية للعمليات، المريخ بأنه “كوكب بحاجة إلى إصلاح شامل”، وهو توصيف مثير للسخرية ويستهين بتحديات استيطان الكوكب استهانة شديدة. فالغلاف الجوي للمريخ يتكوَّن بنسبة 95% من ثاني أكسيد الكربون، ممزوجا بالنيتروجين وعناصر أخرى، مع قليل من السموم. أما درجات الحرارة فيمكن أن تهبط إلى 140 درجة مئوية تحت الصفر.
وقد وصف زميلي روس أندرسن ما قد يحدث لجسد إنسان على المريخ وصفا لا يُنسى: “لو خرجت إلى سطحه من دون بدلة فضائية، فستتقشر عيناك وجلدك مثل أوراق محترقة، وسيتحوَّل دمك إلى بخار، ثم تسقط قتيلا في غضون 30 ثانية”. وحتى مع ارتداء بدلة، فستبقى الحماية هشة: فالإشعاعات الكونية ستتسرَّب عبرها، والعواصف الترابية المريخية، المُحمَّلة بجسيمات كاشطة مشحونة كهربية؛ قد تتسلل من خلال الطبقات والمواد العازلة.
وتتضاعف استحالة الظروف بسبب بُعد المريخ عن الأرض، فإطلاق صاروخ نحو الكوكب الأحمر ليس مُمكِنا إلا مرة كل 26 شهرا تقريبا، حين تصطف مدارات الكوكبين لتقليل زمن الرحلة ومتطلبات الوقود. وحتى في تلك الحالة، تستغرق المركبة الفضائية قرابة ثمانية أشهر للوصول، مما يجعل إعادة تزويد مستعمرة بالإمدادات أو إنقاذ قاطنيها أمرا بالغ الصعوبة.
وعندما يُسأل ماسك عن هذه الأخطار المميتة، يبدو مسترخيا بشكل مربك، وقد قال إنه بنفسه سيخوض الرحلة، في حوار مع وولتر إزاكسون: “من المحتمل أن يموت الناس في الطريق، تماما كما حدث أثناء استيطان الولايات المتحدة، لكنها ستكون تجربة مُلهِمة بشكل لا يُصدَّق، ونحن بحاجة إلى أشياء مُلهِمة في هذا العالم”.
تدفئة المريخ.. بالقنابل النووية
يقترح ماسك من أجل تدفئة المريخ تفجير قنابل نووية فوق قطبَيْه، زاعما أن ذلك قد يُحدِث احتباسا حراريا، وهي فكرة يبدو أنها تروق له، وربما يطرحها كنوع من الاستفزاز الساخر، إذ باعت شركة سبيس إكس في وقتٍ ما قمصانا تحمل شعار “اقصفوا المريخ نوويا”.
ووفقا لعالم بارز في وكالة الفضاء الروسية “روس كوزموس”، فإن تنفيذ خطة ماسك سيتطلب أكثر من 10,000 صاروخ مُزوَّد برؤوس نووية. وحتى الدكتور سترينجْلوف، الشبيه الخيالي المُستلهَم من شخصية فيرنر فون براون من الفيلم الشهير للمخرج ستانلي كوبريك، لربما شعر بالفزع من هذا الحديث العابر عن تفجيرات حرارية نووية.
كان الرئيس كينيدي أيضا على استعداد لتحمُّل أخطار سخيفة في سبيل الطموحات الفضائية، مستندا إلى منطق الحرب الباردة في “تحمُّل أي عبء”، لكنه فعل ذلك لإظهار عظمة الأمة الأميركية. أما ماسك، فيسعى لإنفاق تريليونات، والمجازفة بأرواح البشر، من أجل إظهار عظمته الشخصية ليس إلا. ولأن واقعه ينبع من الخيال، فإن ماسك منفصل عن أي شعور بالقيود الأرضية، أما تصوُّره لدوره في هذه القصة، فينبع من رغبته في القفز مباشرة إلى عالم الأسطورة.
يعمل هوس ماسك بالمريخ بوصفه ضربا من ضروب “عبادة الأسلاف”، فهو يستحضر أسطورة لعائلته التي هربت هي الأخرى من التدهور الاجتماعي. ففي عام 1950، غادر جدُّه جوشوا هالدمان كندا إلى جنوب أفريقيا بحثا عن مجتمع أكثر حرية؛ مجتمعٍ كان يعتقد أنه قادر على الصمود أمام انهيار الحضارة الغربية.
وكان خطاب هالدمان المهووس بأهوال القيامة يهاجم “المصرفيين اليهود” و”جحافل المُلوَّنين”، الذين زعم أنهم يُستَخدمون لتدمير “الحضارة المسيحية البيضاء”. ولم ير هالدمان في صعود نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا شُبهة قَمع، بل رأى فيه الخلاص، واعتبره بمثابة “المعركة الأخيرة” دفاعا عن القيم التي اعتبرها مُقدَّسة.
مثل جدِّه، ينشغل ماسك بهاجس إيقاف الانهيار الحضاري، وهو لا يُعبِّر عن مخاوفه بمصطلحات عنصرية صريحة، بل يصوغها بلغة الحرية والبقاء، لكنه مهووس بفكرة أن المخزون الجيني للبشر يشهد تراجعا في مستوى الذكاء. وقد قال لكاتبة السير الذاتية آشلي فانس ذات مرة: “إذا كان كل جيل متعاقب من الأذكياء ينجب عددا أقل من الأطفال، فربما يكون ذلك أمرا سيئا”. ولذا فإن خطابه استفزازي، لكنه مراوغ بما يكفي لتجنُّب الوقوع في الإدلاء بتصريحات يشوبها التطرُّف الصريح.
على مدى سنوات من التصريحات، والمنشورات على وسائل التواصل، والمقابلات، برز نمط مُتكرِّر، حيث يرى ماسك في المريخ، ليس مجرد قارب نجاة، بل مختبرا وفرصة لإعادة هندسة الإنسانية. فعلى كوكب جديد بعيد عن فوضى الأرض وقيودها، يتخيَّل ماسك مجتمعا يُعاد تشكيله على صورته.
وهذا الاعتقاد متجذِّر في نوع من الداروينية الاجتماعية التكنولوجية، أي فكرة أن التطوُّر يمكن توجيهه، أو حتى ترقيته، بواسطة الهندسة. بهذا الوصف يشرح ماسك الفرضية المُحرِّكة لشركة “نيورالينك” التي شارك في تأسيسها، والتي تُطوِّر واجهات بين الأدمغة والحواسيب تهدف إلى دمج الإدراك البشري مع الآلات، وتخليق نوع من الكائنات السيبورغية.
تتخلَّل تلك الروح نفسها هَوَس ماسك بالإنجاب، وهو يقوم بدوره في تلك العملية. فقد صار لديه الآن، وفق إحصاء وول ستريت جورنال، ما لا يقل عن 14 طفلا من أربع أمهات بيولوجيات. وفي نظرته للعالم، يلتقي شبح القيامة مع الخلاص، فإما أن نصبح عِرقا ذا عبقرية مُصمَّمة أو نتلاشى.
والمريخ هو أعظم فرصة لإعادة صناعة الإنسانية، وبمعنى ما، يتبع ذلك نمطا كلاسيكيا للهجرة، إذ يغادر الشجعان بحثا عن الفرص، بينما يواجه الباقون الفناء، ومن ثمَّ يصبح البقاء اختبارا لقيمة البشر، فأولئك الذين يتخلَّفون عن الركب نتيجة عجزهم، يحكمون على أنفسهم بكونهم غير مؤهلين للمستقبل.
بمجرَّد وصول المستوطنين إلى المريخ، ألمح ماسك إلى أن أشكال الحياة -وربما البشر أنفسهم- قد تُخضَع للهندسة الحيوية لتتمكَّن من البقاء في بيئة الكوكب القاسية، وقد أشار في إحدى المقابلات إلى أن البشرية لطالما شكَّلت الكائنات الحية “عبر نوع من التربية الانتقائية”، ولذا فإن الإنسان يمكن تربيته مثل الأبقار، كما ألمح ماسك. ويُقال إن الرجل مستعد لتقديم مادته الوراثية الخاصة لهذه المساعي، فقد أبلغت مصادر صحيفة التايمز أن ماسك عرض التبرُّع بحيواناته المنوية للمساعدة في تأسيس مستعمرة مريخية (وهو ما نفاه لاحقا).
مُستعيرا المفهوم من خيال عظيموف، يقول ماسك إن مستوطني المريخ سيؤدُّون دور “نور الوعي”. إنهم الأمل الأخير للبشرية، وكأنهم كفة مُقابلة لعصر مظلم قد يعقب دمار الأرض. لكن ما هو مظلم في الواقع هو رؤيته بالتخلّي عن الأرض ووضع إيمان الجنس البشري في نخبة مختارة ذاتيا، تعكس قيم ماسك نفسه، وربما حتى سِماته الشخصية. إن الفكرة مُفعمة بجنون العظمة، وهي نقيض المثُل القديمة لوكالة ناسا التي جسَّدها شعار “من أجل البشرية جمعاء”.
ما بعد أبولو
في الساعات الأولى من صباح ربيعي، قدت سيارتي عبر جسر في ولاية فلوريدا، مرورا بمحمية طبيعية تعجُّ بالتماسيح والخنازير البرية، نحو بُقعة أرض شبه مُقدَّسة: مُجمَّع إطلاق الصواريخ “39 إيه”، الذي كان يوما مسرحا لمفاخر وكالة ناسا. من هنا بدأ أبولو 11 رحلته إلى القمر منذ أكثر من نصف قرن، وفي خضم سباق الفضاء، لربما كان هذا أكثر مكان يثير الحماسة على الأرض، متأهِّبا باستمرار لصناعة المجد والكوارث في آن واحد.
هنا شهد العالم أحد عشر إطلاقا لمهام أبولو، تلتها 82 عملية إطلاق لمكوك فضائي. صمَّمت ناسا المنصة 39 إيه من أجل عصر التلفزيون، حيث يرفرف علم أميركي ضخم عند الأفق، مع ساعة عدٍّ تنازلي رقمية عملاقة عند الطرف الآخر. وحتى الآن، لا تزال هناك لافتة قديمة لشبكة “سي بي إس نيوز” مُعلَّقة على مبنى صغير من الإسمنت يوفِّر إطلالة مثالية على الموقع، والمكان ذاته الذي كان وولتر كرونكايت يروي منه تفاصيل عمليات الإطلاق بصوته الجهوري المُفعَم بالثقة.
بحلول عام 2013، أصبحت منصة الإطلاق مجرد مقر باهظ التكلفة وغير مستخدم، لكنها لم تُهدم بسبب إدراجها في السجل الوطني للأماكن التاريخية. كان ماسك طامعا في الموقع، وكذلك منافسه القديم جيف بيزوس. ولكن في ذلك الوقت، لم يكن لدى بيزوس صاروخ قادر على الإقلاع من المنصة 39 إيه. ومن ثمَّ فازت سبيس إكس بحق استئجار المنصة لعشرين عاما قادمة، وأصبح المسرح القديم للأحلام الأميركية مِلكا لماسك.
وصلتُ إلى المنصة 39 إيه لأشاهد إطلاق فالكون 9، صاروخ سبيس إكس الأساسي، الذي يعادل ارتفاعه مبنى من 20 طابقا، والمُكلَّف بنقل شُحنات إلى محطة الفضاء الدولية، التي تدور في مدار منخفض حول الأرض. حتى الآن، ما من بديل عن فالكون 9، ولا منافس لشركة سبيس إكس، إذ تُعد الشركة الكيان المحلي الوحيد، حكوميا كان أو خاصا، القادر على نقل الطواقم والشحنات إلى المحطة.
قال الرئيس الأميركي ليندون جونسون ذات مرة إن “السيطرة على الفضاء تعني السيطرة على العالم”. في زمنه، كان الفضاء وسيلة لإظهار قوة الدولة الأميركية أمام العالم عبر استعراض تفوُّقها التقني. أما اليوم، فقد أصبح الفضاء مجالا من مجالات الحرب، إلى جانب البر والبحر والجو، إذ تعتمد العمليات القتالية الحديثة على أنظمة في الفضاء توجِّه الذخائر، وتُنسِّق الاتصالات، وتتجسَّس على الخصوم. ومن دون التفوُّق في مدار الأرض، تصبح القوات الأرضية صمَّاء وعمياء وعاجزة عن الحركة تقريبا. ولذلك أنشأت وزارة الدفاع الأميركية عام 2019 قوة الفضاء فرعا سادسا للجيش.
إذا كان الفضاء هو مصدر القوة، فإن دور ماسك أكبر كثيرا مما نظن، ولم يعد دقيقا وصفه بأنه أغنى رجل على وجه الأرض فحسب، فالولايات المتحدة أصبحت تعتمد عليه في سعيها للسيطرة على الفضاء. وتوفِّر سبيس إكس من خلال قسم “ستارشيلد” اتصالات فضائية للقوات المسلحة الأميركية، ويُقال إن أقمارها الصناعية قادرة على تتبُّع الصواريخ الفرط صوتية والباليستية، وتوسيع نطاق رقابة الحكومة الأميركية ليشمل تقريبا كل ركن من أركان العالم.
في أبريل/نيسان الماضي، منحت قوة الفضاء التابعة للجيش شركة سبيس إكس غالبية عقودها لمجموعة من مهام الأمن القومي للسنوات المقبلة. ويشمل بعض هذا العمل وكالات مثل مكتب الاستطلاع الوطني، مما يجعله في نطاق السرية. إن الحجم الحقيقي لاعتماد الحكومة على سبيس إكس يظل غامضا، ونادرا ما يخضع للتدقيق، ولا يُنظَّم قانونيا إلا بقدر محدود. ومع ذلك، فإن التبعية لا يمكن إنكارها، فإذا قرَّر ماسك أن يحجب دعمه بدافع المبدأ، أو المزاج، أو السعي وراء الربح؛ فقد تجد الحكومة نفسها معزولة، إذ لا يمتلك أي من منافسي سبيس إكس حتى الآن القدرة على الحلول محلها.
وقد قال متحدث باسم قوة الفضاء الأميركية إن القوة تعتمد على “عدد من الشركاء في القطاع الخاص”، ومن بينهم سبيس إكس، وتواصِل السعي إلى “توسيع تنوع المورِّدين المُحتملين”، مضيفا أن وزارة الدفاع “تمارس رقابة صارمة” على عقودها، كما نفى المتحدث الادعاءات القائلة بأن أقمار سبيس إكس تتعقب الصواريخ.
لقد أظهرت الحرب في أوكرانيا لمحة مخيفة عن الأخطار التي يطرحها تبوُّء إيلون ماسك دور حارس الفضاء الأوحد. ففي الأيام الأولى للغزو، سارعت سبيس إكس إلى تزويد أوكرانيا بمحطات ستارلينك، مما ساعد في تعويض أنظمة الاتصالات التي أضعفتها الهجمات السيبرانية القادمة من موسكو والقوات الروسية المُتقدِّمة نحو أوكرانيا. كان ذلك عملا نبيلا ومكسبا إستراتيجيا، إذ استطاعت القوات الأوكرانية، بدعم من التكنولوجيا الجديدة، أن تُنظِّم تكتيكات غير متكافئة أوقفت التقدم الروسي. ولكن التزام ماسك سرعان ما أصابه الفتور.
في سبتمبر/أيلول 2022، رفضت سبيس إكس طلبا أوكرانيا بتمديد تغطية ستارلينك لتشمل شبه جزيرة القرم، مما منع فعليا ضربة كانت مُخطَّطة ضد القوات البحرية الروسية في مدينة سِفاستوبول. ومنذئذ، بدأ ماسك يتحدث مطولا مع فلاديمير بوتين، وفقا لصحيفة وول ستريت جورنال، الأمر الذي أثار قلق أجهزة الاستخبارات الأميركية.
وفي الأشهر التالية، فرضت الشركة حدودا جغرافية جديدة على استخدام ستارلينك، مما قيَّد تطبيقه في مناطق كان بإمكان أوكرانيا أن تستهدف فيها نقاط ضعف روسيا. وقد روَّج ماسك لخطوته على أنها ضبطُ نفسٍ حكيم لأجل المساعدة في تفادي اندلاع حرب عالمية ثالثة، لكن الأمر كشف عن حقيقة مزعجة: أن العمليات الميدانية الأوكرانية كانت خاضعة لتقدير شخص واحد. وقد كتب ماسك على منصة إكس: “نظامي ستارلينك هو العمود الفقري للجيش الأوكراني، وخطهم الأمامي بأكمله سينهار إذا أوقفته”.
ماسك وتداعي الدولة الأميركية
تُجسِّد هيمنة ماسك تحوُّلا عميقا في تاريخ الاقتصاد السياسي الأميركي. ففي أثناء الحرب الباردة، كان المجمَّع الصناعي العسكري يُدار من قِبل شركات تعمل خادمة للدولة. وقد كان لها نفوذ واسع، لكنها ظلّت في الغالب مؤسسات بيروقراطية صارمة رمادية الطابع؛ مجرد تروس في آلة مترامية الأطراف ومربحة أيضا.
أما ماسك فمختلف، إذ إن سنوات من التغطية الإعلامية التي أسبغت عليه هالة من القداسة، إلى جانب نفوذه الهائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أنجبت جيوشا من المعجبين وأنتجت نزعة تمجيد شخصية بموجب إنجازاته التي تفرض على الجميع الإعجاب بها كما يُفترض.
في ليلة رطبة من ليالي فلوريدا، وقفت على ضفة رملية، شاخصا ببصري نحو منصة الإطلاق 39 إيه، وكانت ساعة العد التنازلي تقترب من الصفر. وبدون صوت كرونكايت الشهير للعد التنازلي، شاهدت فالكون 9 يشق الظلام بعنف، حاملا حمولة متجهة إلى محطة الفضاء. وبعد دقائق، ظهر ضوء في السماء: كان الصاروخ القابل لإعادة الاستخدام يعود إلى الأرض، شامخا ومهيبا، ومُلقيا بوهج دافئ فوق أشجار النخيل.
ولوهلة في ربيع هذا العام، بدا أن طموحات ماسك العظمى قد تتعثر. في واشنطن، كان الاعتقاد السائد منذ زمن أن ماسك وترامب سيقفان وجها لوجه في النهاية. وحين حصل ذلك فعلا، كانت الشرارة وكالة ناسا، في مشهد منطقي ومُلائم. فقد ضغط ماسك من أجل تعيين صديقه جاريد إيزاكمان رئيسا للوكالة، وهي خطوة فاحت منها رائحة المحسوبية.
ففي عام 2021، كان إيزاكمان، وهو رائد أعمال في مجال التكنولوجيا، قد دفع الملايين لشركة سبيس إكس لمطاردة حلم طفولي بالذهاب إلى الفضاء. وسرعان ما قاد ذلك الاتفاق إلى صداقة، ثم إلى امتلاك شركته حصة في سبيس إكس نفسها.
عندما تغيَّر موقف الرئيس من ماسك، ضربه ترامب في أكثر الملفات إيلاما. فقد غضب ترامب عندما علم أن إيزاكمان تبرَّع لحملات ديمقراطية في السابق، فسحب ترشيحه في 31 مايو/أيار الماضي. وتلقى ماسك الضربة بوصفها حلقة في سلسلة خيانات، وانفجر على الإنترنت مُحذِّرا من أن ملفات جيفري إبستين ستكشف عن تورُّط ترامب، ومُندِّدا بأن مشروع قانون الإنفاق الذي يطرحه الرئيس “مقزز وشنيع”. وسرعان ما انتقلت المواجهة إلى الفضاء، فقد هدَّد ماسك بوقف تشغيل المركبات الفضائية التي تُزوِّد محطة الفضاء الدولية بالإمدادات، بينما رد ترامب الصاع صاعيْن، قائلا إنه سيأمر بمراجعة عقود الحكومة مع سبيس إكس.
ورغم كل هذه المعارك الكلامية، لا توجد أي علامة على أن سبيس إكس قد تضررت فعليا. لقد فكك ترامب وماسك البيروقراطية الفيدرالية، لكن نزعاتها القديمة ما زالت سائدة؛ فالجهاز الإداري متمسك بالمزوِّدين الذين أثبتوا قدرتهم على الإنجاز. وحتى في ذروة غضب ترامب، كانت واشنطن تزداد اعتمادا على ماسك.
ففي يونيو/حزيران الماضي، قال قائد في قوة الفضاء بالجيش إن سبيس إكس ستؤدي دورا محوريا في برنامج “ميلنِت” (MILNET)، وهو مجموعة جديدة تضم أكثر من 480 قمرا صناعيا. ووفقا للتقارير، فإن البنتاغون سيتكفَّل بالتمويل، بينما ستشرف أجهزة الاستخبارات على المشروع، وسيديره ماسك.
وفي ميزانية 2026 المقترحة، تحرَّكت إدارة ترامب لتمويل طموحات ماسك الأعمق، وإن كان بجزء يسير من المبلغ الهائل المطلوب سابقا. فقد اقترح ترامب تخصيص مليار دولار لتسريع مهمة السفر إلى المريخ وتمويل تصميم البدلات الفضائية وأنظمة الهبوط وغيرها من التقنيات التي تجعل الرحلة ممكنة.
ولكن هذه الأموال المُخصَّصة لاستكشاف الفضاء البشري ستُنتزع من برامج ناسا الأخرى، حتى مع تقليص ميزانيتها الإجمالية بما يقارب 25% وتخفيض قوتها العاملة بمقدار الثلث. ولأجل تحقيق المصير الكوني لماسك، تقوم الإدارة بتفريغ مهمة ناسا العلمية الأشمل من مضمونها، وهو المجال الذي تتقنه أكثر من غيره.
لقد تعثَّر مجال الطيران الفضائي البشري لعقود، مسكونا بعجزه عن تكرار أعظم إنجازاته، ومتأرجحا مع تغيُّر أولويات الرؤساء، كما أن أهمية رواد الفضاء في مشروع الاستكشاف، التي كانت موضع تساؤل منذ البداية، تراجعت أكثر مع تحسُّن كفاءة الروبوتات.
في الوقت ذاته، ومن دون أن تحظى بالضجة نفسها، تواصل ناسا إظهار براعة استثنائية في مجال العلوم، فمبادراتها البحثية يمكن القول إنها أعمق المشاريع في المؤسسات الحكومية الأميركية برمتها، فهي تشتبك بالفعل مع أعظم ألغاز الكون، وتحاول الإجابة عن أسئلة كبرى مثل كيفية بداية الحياة على الأرض؟ وما إذا كنّا وحدنا بالفعل في هذا الفضاء الكوني؟
لقد ساعدت الحكومة، التي يُنظر إليها كثيرا على أنها بيروقراطية تستنزف الأرواح، في تزويد البشرية بإجابات عن أسئلة ذات بُعد فلسفي وروحي في الحقيقة. ففي أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، قدَّم مسبار مستكشف أشعة الخلفية الكونية “كوبي” (COBE) دليلا على نظرية الانفجار العظيم. وفي عام 2020، وبعد أن وصلت مركبة أوزيريس-ريكس إلى الكويكب بينو، جمعت عيِّنة من نوع من المقذوفات البدائية يُعتقد أنها حملت اللبنات الأساسية للحياة إلى الأرض في مراحلها المبكرة.
وباستخدام تلسكوب هابل الفضائي، ساعدت ناسا في تحديد عمر الكون، وأكَّدت وجود الطاقة المظلمة، ومدَّت نظرة البشرية إلى المجرات والثقوب السوداء البعيدة. وعبر التقاط الضوء المنبعث من مجرات وُجِدَت قبل أكثر من 13 مليار سنة، تمكَّن أحد تلسكوبات ناسا من التحديق فعليا في الماضي السحيق للكون.
ورغم سخرية ماسك مما يُفترض أنه افتقار ناسا إلى الطموح، فإن الوكالة كانت قد شنَّت بالفعل حملة جريئة لاستكشاف المريخ، وإن بالروبوتات لا بالمستوطنين. فعلى مدى عقود، أرسلت ناسا أسطولا من الجوَّالات مثل سبيريت وأوبورتيونيتي وكِريوسيتي وبيرسيفيرانس، كي تجوب سهول الكوكب الأحمر، وتثقب الصخور، وتبحث عن آثار قديمة للماء والحياة.
وتتوجَّه عدسات ناسا إلى الداخل وإلى الخارج. فقد وثَّقت أقمارها الصناعية ذوبان القمم الجليدية القطبية وتدمير الغابات، مُحذِّرة البشرية من هشاشة الكوكب. وعلى عكس المشتقات التكنولوجية التي تتباهى بها ناسا أمام الكونغرس لتبرير وجودها، فإن هذه الاكتشافات ليست إنجازات عابرة في الهندسة التطبيقية، بل هي السبيل إلى معرفة الإنسان لذاته؛ إنها اكتشافات لن تسعى إليها الشركات الخاصة أبدا، لأنها لا تُقاس بقيمة ربحية.
من العِلم إلى الربح
تُعَد ميزانية ترامب إذن وثيقة ثقافية إن جاز القول، إذ إنها تعكس تحوُّلا في القيم العامة بالولايات المتحدة. حتى وقت غير بعيد، كان الفلكي كارل ساغان يُشكِّل الطريقة التي يُفكِّر بها الأميركيون في الفضاء، وقد فعل ذلك عبر كتبه الأنيقة وبرنامجه التلفزيوني كوزموس (الكون)، الذي وصل إلى ما يُقدَّر بنحو 500 مليون مشاهد حول العالم.
في القلب من مشروع ساغان كان الهدف إبراز قيمة المنهج العلمي، الذي يتطلَّب ويُعزِّز الشك والتواضع، وهي طريقة تفكير يمكن أن تساعد المجتمع في مقاومة إغواء الهيمنة. لقد كان ساغان مُشبَعا بالإحساس بالدهشة، وهي قيمة كان يأمل أن يغرسها في الأميركيين، وعاد بذلك إلى النزعة الإنسانية لعصر التنوير، التي لم تكن مهووسة بالتفريق بين الفلسفة والعلم.
في كل مرة أرى فيها ماسك، أفكِّر في ساغان لأنه ببساطة نقيضه. فهو كائن مصنوع من الهندسة لا من العلم، ويدين بثروته للقوة الغاشمة لصواريخه، وللهيبة التي تبعثها، فما من شيء متواضع في أسلوبه. وبدلا من الاحتفاء بطبيعة الوجود البشري الهشَّة والعصية على التخطيط، يسعى ماسك إلى تحسينها أو محوها، باسم التطور، وسعيا وراء الربح، في إنفاذ مُتكبِّر لأحلام مراهقته.
حيثما تصوَّر ساغان التعاون، أتى ماسك مُجسِّدا انتصار الفرد. وحيثما حذَّر ساغان من العواقب غير المقصودة للتكنولوجيا، تقدَّم ماسك مُندفعا وباحثا عن الطفرة تلو الطفرة دونما نظر في العواقب. وذلك الاندفاع سيجرف في النهاية كثيرا من القيود القديمة التي تُكبِّله.
لأكثر من خمسين عاما، ظلَّت الحكومة الأميركية تُفكِّر في بعثات إلى المريخ ولم تحشد الإرادة السياسية لتمويل واحدة منها، وهذا بالضبط ما يفعله إيلون ماسك، حيث تُخطِّط سبيس إكس لإطلاق أول بعثة غير مأهولة إلى المريخ، من دون تمويل ولا تفويض رسمي من ناسا، في أواخر عام 2026، بالتزامن مع اصطفاف الأرض والمريخ.
ويُقدِّر ماسك نفسه احتمال اغتنام نافذة اصطفاف 2026 بنسبة 50%، ويشي لنا تاريخه من العروض المسرحية والمواعيد النهائية غير المنجزة بأن هذه الاحتمالات قد تكون مبالغا فيها. ولكن الأمر أكبر من مجرد استعراض، إنه يبني أقوى صاروخ في تاريخ البشر، ويختبره بوتيرة لا هوادة فيها، ويدفعه نحو الجدارة بإرادته المنفردة لا أكثر. ومهما بدت جداولُه الزمنية تكهُّنية، فإنها تشير إلى وِجهة معقولة: اليوم الذي ينجو فيه ماسك من مدار جاذبية الحكومة الأميركية.
يمكن أن تُروَى قصة الملياردير الأميركي باستخدام أدب يجلّه ماسك أكثر من غيره من صنوف الأدب. في خطوة متغطرسة، منحت ناسا الحياة لمخلوق يُدعى سبيس إكس، معتقدة أنه قد يساعد في تحقيق أسمى طموحات البشرية، لكن على غرار كل الحكايات الكُبرى عن التكنولوجيا، سرعان ما فاق المخلوق حدود صانعه، فما كان يفترض أن يكون شريكا أصبح قوة هيمنة قائمة بذاتها، وفقد سيِّدُها السيطرة عليها. وهكذا يبدأ فصل جديد من الحكاية: فصل كابوسي مكتوب بكلمات عن “التحرُّر”.
—————————
* إضافة المترجم
هذا التقرير مترجم عن ذا أتلانتيك ولا يعبر بالضرورة عن موقف شبكة الجزيرة التحريري