في قلب قطاع غزة، وبالرغم من التحديات الجسيمة التي يواجهها، يبرز بصيص أمل في مجال التعليم. ففي ساحة محاطة بآلاف خيام النازحين بمنطقة المواصي غرب خان يونس، يعمل فريق من الحرفيين والعمال بجد لإعادة بناء مستقبل الأطفال من خلال مشروع “البرنامج الشامل لإعادة تأهيل قطاع التعليم في غزة”. هذا البرنامج، الذي أطلقته منظمة “علماء بلا حدود” ومقرها الولايات المتحدة الأمريكية، يمثل دعماً حيوياً للطلاب والمعلمين في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها غزة.
البرنامج الشامل لإعادة تأهيل قطاع التعليم في غزة: انطلاقة جديدة
يهدف البرنامج الشامل لإعادة تأهيل قطاع التعليم في غزة إلى إنشاء 300 مدرسة في جنوب وشمال القطاع. المرحلة الأولى التجريبية تتضمن بناء 10 مدارس بتكلفة 110 آلاف دولار للمدرسة الواحدة (المكونة من 6 فصول دراسية)، مع زيادة التكلفة تبعاً لعدد الفصول والخدمات الإضافية. المنظمة لا تكتفي ببناء المدارس، بل تعمل أيضاً على تأسيس مدينتين تعليميتين متكاملتين، واحدة في المواصي وخاضرة أخرى في نتساريم، لتقديم خدمات تعليمية شاملة.
الدكتور حمزة أبو دقة، رئيس الهيئة التمثيلية لمنظمة علماء بلا حدود في غزة، يؤكد أن جميع الخدمات التي تقدمها المنظمة مجانية بالكامل، مما يضمن وصولها إلى أكبر عدد ممكن من المستفيدين. هذا التمويل الكامل يهدف إلى تخفيف العبء على الأسر المتضررة من الحرب، وتمكين أطفالها من مواصلة تعليمهم.
مدرسة غيث: نموذج للإلهام
في مايو 2024، وبعد النزوح الهائل من رفح، تأسست مدرسة غيث كأول مبادرة تعليمية ضمن هذا الإطار في منطقة المواصي المكتظة بالنازحين. هذه المدرسة لم تكن مجرد مبنى تعليمي، بل كانت رمزاً للصمود والأمل. تستقبل مدرسة غيث حوالي 4 آلاف طالب وطالبة من رياض الأطفال وحتى المرحلة الثانوية، وتقدم لهم التعليم الجيد، والغذاء الآمن، والرعاية الصحية النفسية، والأنشطة الترفيهية.
وقد حققت مدرسة غيث نجاحاً ملحوظاً، حيث تمكنت من تخريج 190 طالبًا حصلوا على معدلات تفوق 90% في امتحانات الثانوية العامة الأخيرة. هذا الإنجاز ألهم المنظمة لتوسيع نطاق عملها وإطلاق البرنامج الشامل لإعادة تأهيل التعليم، ساعيةً إلى إعادة بناء قطاع التعليم الذي تعرض لتدمير واسع النطاق خلال الحرب.
التحديات والمواد البديلة
يواجه البرنامج تحديات كبيرة، أبرزها نقص مواد البناء بسبب القيود الإسرائيلية. وللتغلب على هذه العقبات، تعتمد المنظمة على مواد بديلة مثل الحديد والصفيح في بناء الفصول الدراسية والمباني المدرسية. كما تستخدم العشب الصناعي في تغطية الأرضيات، مع مراعاة توفر المواد في السوق المحلي الذي يشهد ارتفاعاً كبيراً في الأسعار.
أبو دقة يوضح أن مواقع المدارس يتم اختيارها بعناية، حيث يتم بناء المدارس الجديدة على أنقاض المدارس المدمرة بعد إزالة الركام. كما يتم اختيار الساحات الفارغة التي تراعي حركة النازحين والتوزيع الجغرافي لهم، بالتنسيق مع البلديات ووزارة الحكم المحلي. هذا التخطيط الدقيق يضمن سهولة الوصول إلى المدارس وخدماتها من قبل جميع الطلاب.
مدن تعليمية متكاملة.. ودعم نفسي وتعليمي
بالإضافة إلى بناء المدارس، يولي البرنامج أهمية كبيرة لتوفير بيئة تعليمية شاملة ومتكاملة. فالمدينتين التعليميتين اللتين يجري تأسيسهما ستشملان غرفاً إدارية، وقاعات خاصة بالصحة النفسية، ومساحات خضراء للأنشطة الترفيهية والتفريغ النفسي.
وفي إطار دعم التعليم العالي، تخطط المنظمة لإنشاء 7 قاعات جامعية تتسع لـ700 طالب وطالبة، ومساحات عمل مجهزة بالكامل للتخصصات العلمية، وتقديم هذه الخدمات مجاناً للجامعات والنقابات والمؤسسات المحلية. كما أعلنت عن تقديم 300 منحة دراسية كاملة للطلاب المتفوقين والذين فقدوا معيلهم خلال الحرب. هذا الدعم يضمن استمرار تعليمهم وتحقيق طموحاتهم.
مؤتمر الدوحة.. وتوحيد الجهود لإعادة الإعمار
في نهاية يناير 2024، ستستضيف الدوحة مؤتمراً مهماً لبحث إعادة إعمار قطاع التعليم في غزة، برعاية منظمة “علماء بلا حدود” وبالشراكة مع وزارة التربية والتعليم القطرية. يهدف هذا المؤتمر إلى توحيد الجهود الإقليمية والدولية لدعم قطاع التعليم في غزة، وتوفير الموارد اللازمة لإعادة بنائه.
ويتوقع أبو دقة أن يبدأ البرنامج استقبال الطلاب في المدارس الجديدة مطلع الشهر المقبل، قبل انطلاق مؤتمر الدوحة. حتى الآن، هناك إقبال هائل على التسجيل، وتشير التقديرات إلى أن المرحلة الأولى من البرنامج ستستقبل حوالي 40 ألف طالب وطالبة.
أولوية وطنية.. ومستقبل مشرق
ويؤكد الدكتور إسماعيل الثوابتة، مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي، أن إعادة تأهيل قطاع التعليم في غزة يمثل “خطوة إستراتيجية ومسؤولة” في ظل الظروف الاستثنائية التي يمر بها القطاع. ويضيف أن التعليم سيبقى أولوية وطنية، وأن البرنامج يساهم في ضمان استمرارية العملية التعليمية وعدم انقطاعها، ويوفر بيئات تعليمية آمنة ومناسبة.
إن حجم الدمار في البنية التعليمية في غزة هائل. حسب توثيق الإعلام الحكومي، يحتاج 90% من المباني المدرسية إلى إعادة بناء أو تأهيل رئيسي، حيث تعرض 668 مبنى مدرسي للقصف المباشر. وعلى الرغم من هذه التحديات، فإن إطلاق البرنامج الشامل لإعادة تأهيل التعليم يمثل بداية فعالة لإعادة الأمل والتعليم لأطفال غزة، ويساهم في بناء مستقبل أفضل لهم. هذا البرنامج ليس مجرد مبادرة تعليمية، بل هو استثمار في مستقبل فلسطين.


