في السنوات الأخيرة، شهدت أوروبا تحولًا سياسيًا ملحوظًا تمثل في صعود أقصى اليمين وتراجع نفوذ الأحزاب الوسطية. لم يعد الأمر مجرد همسات هامشية، بل أصبح واقعًا ملموسًا يهدد أسس الديمقراطية الليبرالية في القارة. مقال حديث في صحيفة نيويورك تايمز، بقلم الخبير في السياسة الأوروبية ديفيد برودر، يلقي الضوء على هذه الظاهرة، معتبرًا إياها نتيجة حتمية للإخفاقات المتراكمة للحكومات الوسطية في معالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية الملحة. بالإضافة إلى ذلك، يشير المقال إلى أن هذا الصعود ليس مجرد رد فعل على الأزمات، بل هو أيضًا نتيجة لتعميق الاستقطاب السياسي وتنامي الشعور بالإحباط بين الناخبين.
فشل تيار الوسط: أرضية خصبة لصعود اليمين المتطرف
يؤكد برودر أن صعود أقصى اليمين ليس مجرد صدفة، بل هو نتيجة منطقية لسياسات حكومية فشلت في تلبية تطلعات المواطنين. فبدلًا من تقديم حلول واقعية ومستدامة، انغمست الحكومات الوسطية في جدالات عقيمة، واعتمدت على التكنوقراطية والإجراءات القمعية بدلًا من الإصلاحات الجذرية. هذا الفراغ السياسي، كما يوضح المقال، أتاح للقوى اليمينية المتطرفة استقطاب الناخبين الغاضبين والمحبطين، من خلال تقديم وعود بسيطة وشعارات جوفاء.
نماذج من الفشل: فرنسا وألمانيا وبريطانيا
يركز المقال على ثلاثة نماذج رئيسية لفشل الحكم الوسطي: فرنسا في عهد إيمانويل ماكرون، وألمانيا بقيادة المستشار فريدريش ميرتس، وبريطانيا تحت حكم رئيس الوزراء كير ستارمر. في فرنسا، يرى برودر أن ماكرون، على الرغم من محاولاته لإعادة هيكلة الاقتصاد الفرنسي، فشل في معالجة مشاعر الإقصاء والتهميش التي يعاني منها جزء كبير من السكان. أسلوبه المتغطرس والإصلاحات التي تخدم الأغنياء على حساب الطبقات الوسطى والفقيرة، أدت إلى تآكل شعبيته وخسارته الأغلبية البرلمانية.
في ألمانيا، يشير المقال إلى أن المستشار ميرتس، من خلال تخفيف قيود الاقتراض وتمويل إعادة التسلح، لم ينجح في إحياء الصناعة أو إعادة الثقة إلى المواطنين. بل على العكس، وجد نفسه متوافقًا مع أجندة حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف، الذي يطالب أيضًا بزيادة الإنفاق العسكري ويعارض التحول الأخضر.
أما في بريطانيا، فيؤكد برودر أن ستارمر، على الرغم من فوزه بأغلبية ساحقة، تراجع بسرعة بسبب حذره المفرط وتردده السياسي. تركيزه على الانضباط المالي بدلًا من تحسين مستويات المعيشة، وتراجعه عن وعوده بتخفيضات في المخصصات، أضر بسمعته وشجع على صعود حزب الإصلاح البريطاني بقيادة نايجل فاراج.
ذكريات الماضي والواقع الجديد: فشل السياجات الديمقراطية
قبل عقد من الزمن، كانت هناك ثقة واسعة في قدرة المؤسسات الديمقراطية الأوروبية والذاكرة التاريخية للفاشية على منع أقصى اليمين من تحقيق اختراقات حاسمة. لكن برودر يوضح أن هذه الثقة كانت مبالغًا فيها. ففي السنوات الأخيرة، ترسخ اليمين المتطرف في المؤسسات الوطنية والأوروبية، وفاز بالسلطة أو النفوذ في بلدان مثل المجر وإيطاليا والسويد وفنلندا. كما تمكن من إجهاض أجزاء من خطط التحول الأخضر وتشديد الرقابة على الحدود.
اليوم، يواجه الاتحاد الأوروبي احتمالًا غير مسبوق يتمثل في تحقيق أقصى اليمين اختراقات متزامنة في أكبر اقتصادات القارة، وهو ما يثير مخاوف حقيقية بشأن مستقبل المشروع الأوروبي.
استنساخ الخطاب: خطيئة الحكومات الوسطية
يرى برودر أن الخطأ المشترك بين الحكومات الوسطية في هذه البلدان هو محاولتها “تحييد” خطاب أقصى اليمين من خلال استنساخ أجزاء منه، خاصة في ملف الهجرة، دون تقديم رؤية سياسية إيجابية بديلة. هذا التكتيك، بدلًا من إضعاف اليمين المتطرف، منحه شرعية إضافية وأتاح له التوسع.
بدلًا من معالجة الأسباب الجذرية للإحباط والغضب الشعبي، اختارت الحكومات الوسطية اللجوء إلى التكنوقراطية والإدارة البيروقراطية والسياسات القمعية، مما أدى إلى تآكل قاعدتها الانتخابية ولا تجذب الناخبين الساخطين.
دروس من النجاح: الدنمارك وإسبانيا
يقارن المقال هذه الإخفاقات بقصتين للنجاح الأوروبي: الدنمارك وإسبانيا. في الدنمارك، نجحت رئيسة الوزراء ميتي فريدريكسن في صد أقصى اليمين ليس فقط من خلال نهج صارم تجاه الهجرة، بل بالدرجة الأولى من خلال برنامج طموح لإعادة التصنيع الأخضر واستثمار كبير في الطاقة المتجددة. هذا التدخل الاقتصادي حول التركيز الوطني إلى قضايا المناخ والرعاية الصحية، بعيدًا عن الهجرة.
في إسبانيا، استطاع رئيس الوزراء بيدرو سانشيز، من خلال تبني سياسات جريئة لإعادة التوزيع، تحديد سقف لأسعار الطاقة، واستعادة حماية العمال، ورفع الحد الأدنى للأجور، وفرض ضرائب على الثروات الكبيرة. من خلال حشد الناخبين خلف إنجازات حكومته، تمكن سانشيز من إحباط صعود حزب “فوكس” القومي المتطرف.
نحو مستقبل أفضل: ضرورة التغيير
يختتم برودر مقاله بالتحذير من مغبة وصول أقصى اليمين إلى السلطة في أوروبا، مشيرًا إلى أن ذلك سيؤدي إلى اختفاء أجندة “الصفقة الخضراء” الأوروبية، وتوجيه الاستثمارات نحو إعادة بناء الجيوش الوطنية، وتوسيع نطاق الترحيل الجماعي، وتشديد الرقابة على الحدود، واستهداف المسلمين واللاجئين الأوكرانيين. ويدعو القادة الوسطيين في بريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى تعلم الدروس من الدنمارك وإسبانيا، والبدء في تبني سياسات جريئة وشاملة لمعالجة الأسباب الجذرية للإحباط والغضب الشعبي، وتجديد العقد الاجتماعي. فإذا لم تغير الحكومات الأوروبية الوسطية مسارها، يمكن لليمين المتطرف أن يجعل أوروبا أرضًا خالصة له، وبعدها لن يكون بمقدور أحد التنبؤ بما سيحدث.
يوصى بالبحث عن حلول مبتكرة وعلى نطاق واسع لمعالجة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه أوروبا، وتجنب الحلول السهلة التي تغذي الاستقطاب السياسي وتدعم صعود اليمين المتطرف. يتطلب الأمر قيادة حكيمة ورؤية واضحة وشجاعة سياسية لإنقاذ أوروبا من هذا الخطر الداهم.


