بصوت مخنوق، ومحاولة مضنية لحبس دموعه ينقل للعالم ما تقوم به الفرق الطبية والصحية من مجهود استثنائي في “ميدان الشرف، فالعيش في غزة هاشم يكفي للحمد”، كما يقول.

دماء أطفال ونساء ورجال غزة ستبقى البوصلة الأخلاقية لقياس منسوب الإنسانية، ترسم مجرى التاريخ وتفتح الطريق نحو الحرية، رغم الدم والآلام وصرخات الأطفال والبكاء المكتوم للأمهات الثكالى.

كتب عبر حسابه على المنصة الاجتماعية “فيسبوك” بوحا موجعا “لم يعد البحر مرآة للغزاة وسفنهم الحديدية، بل صار طريقا للأحرار وأشرعة الكرامة. ها هو أسطول الصمود يشق عباب الموج ليعلن أن غزة لا تُحاصر، بل تُحرج العالم بصبرها وصمودها”.

رجل يعرف مصيره المحتوم، فقد سبقه زملاء له في نيل شرف الشهادة أو الاختفاء القسري أو معاناة لا تطاق في سجون الاحتلال الرطبة والعفنة التي تديرها عقول “مختلة” كما وصف الاحتلال ذات يوم.

ابن جباليا

ولد منير البُرش في جباليا الواقعة شمالي قطاع غزة في عام 1971، وفيها تلقى تعليمه الأساسي.

التحق بجامعة “ياش” برومانيا وحصل منها على بكالوريوس في الصيدلة، ثم حصل على درجة الماجستير في الإدارة والسياسات الصحية من جامعة القدس.

تنقل بين العديد من المناصب الحكومية، منها منصب المدير العام للصيدلة لمدة 12 عاما، إلى أن تولى منصب المدير العام لوزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة.

عرف البرش بنشاطه المجتمعي والخيري الواسع، إذ يرأس عدة جمعيات منها “الجمعية الوطنية للتطوير والتنمية” و”مؤسسة نماء للتنمية والتطوير” و”كلية نماء للعلوم والتكنولوجيا” و”نادي نماء الرياضي” و”دار القرآن الكريم” و”الندوة العالمية للشباب الإسلامي”.

مقاتل لا يستسلم

خلال الحرب الوحشية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، برز واحدا من بين الأطباء الصامدين والقانعين بمصيرهم رغم المخاطر الشديدة التي تواجهه، وخاصة خلال حصار مجمع مستشفى الشفاء في المنطقة الغربية الوسطى من مدينة غزة.

ولم يرفع الراية البيضاء ولم يقبل بالخروج من “الشفاء” إلا قسرا، حيث توجه إلى مشافي شمال قطاع غزة، وخاصة المستشفى الإندونيسي ومستشفى كمال عدوان، وظل صوت غزة الذي لم يهدأ.

وقف بشجاعة تسجل له لدى وصول الدبابات الإسرائيلية إلى مداخل المستشفى وهي تقصف بعنف سطح المستشفى، مستهدفة ألواح الطاقة الشمسية بهدف قطع التيار الكهربائي عن المجمع الطبي، ثم استهداف كل من يتحرك بالقرب من النوافذ.

اقتحم الجيش المستشفى، وقتل واعتقل المئات، وأجبر من تبقى على النزوح نحو جنوب القطاع، لكن البرش توجه إلى الشمال والتحق بمستشفى كمال عدوان ليمارس عمله، وما هي إلا أيام قليلة حتى شن الاحتلال هجوما على المستشفى.

بعد خروج مستشفى كمال عدوان عن العمل، توجه البرش إلى مركز طبي في مخيم جباليا لإكمال رسالته. بعدها بأيام، بدأ الاحتلال باقتحام جباليا.

وكما جرت العادة، كان أول ما يريد الجيش تدميره هو المراكز الطبية، فحرق المركز الطبي.

ثمن الصمود

ودفع الدكتور البرش ثمن صموده وتحديه لجيش الاحتلال بأن أصيب بجروح مع جميع أفراد عائلته، واستشهدت ابنته جنان (13 عاما) في قصف إسرائيلي استهدف منزلا في جباليا في ديسمبر/كانون الأول 2023، وظهر البرش في مقطع مصور وهو يعانق ابنته الشهيدة، رغم إصابته وعدم قدرته على الحراك، في لحظات مؤلمة انتشرت بشكل واسع في منصات التواصل الاجتماعي.

وقال البرش خلال وداعه ابنته “هذه ابنتي نامت بحضني وفدتني بروحها”.

وأضاف “اللهم هذه ابنتي وهبتها إليك. هذه ابنتي حفظت كتاب الله وكانت تريد أن تسرد القرآن على جلسة واحدة في صفوة الحفاظ. أخذتها شهيدة فاقبلها يا رب”.

واضطر البرش لاستخدام الكرسي المتحرك بعدما تعرض لكسر في الفقرة الرابعة في العمود الفقري، الأمر الذي استدعى تدخلا طبيا وعملية جراحية استمرت 6 ساعات متواصلة، وكاد أن يصاب بالشلل، فنقل إلى إحدى النقاط الطبية بعدما حطم جيش الاحتلال جميع مرافق المنظومة الصحية في شمال غزة.

ويشن الجيش الإسرائيلي، وفق مؤسسات صحية وحقوقية، حملة شرسة وممنهجة على مستشفيات غزة والقطاع الطبي بكامله، وأخرج كامل القطاع من الخدمة منذ بداية حربه على غزة، مما جعل مئات الآلاف من الجرحى والحوامل والأطفال والمرضى المزمنين بلا خدمات صحية.

وهناك أكثر من 25 مستشفى من أصل 38 دمرها الاحتلال وأخرجها عن الخدمة.

المصير والرفاق

ولا يتوقف البرش مطلقا عن الحديث عن مستشفى كمال عدوان ومديره الدكتور حسام أبو صفية المعتقل في “سدي تيمان” المسلخ البشري بصحراء النقب.

أيضا يتحدث عن رفاقه: مدير المستشفيات الميدانية في غزة مروان الهمص، ومدير مستشفى العودة في منطقة تل الزعتر شمال غزة الدكتور أحمد مهنا، ولا يُعرف حتى الآن مصير الكثيرين من الفرق الطبية في مستشفى كمال عدوان الذين اعتقلوا مع أبو صفية.

يدرك الدكتور البرش تماما أن مصيره لن يختلف عن مصير رفاقه، حيث قتل الاحتلال أكثر من 1000 من العاملين في القطاع الصحي، لكنه يجد نفسه أمام اختبار الإيمان وحسن الظن أمام لحظة الحقيقة التي تبقى على مر الزمن، وهي البقاء بين شعبه حتى النصر أو الشهادة.

الأوبئة تترصد الأجساد الواهنة، والطوابير الطويلة على قطرات الماء تروي حكاية العطش أكثر مما تُطفئه. والمرضى والجرحى عالقون بين الخيمة والركام بلا دواء، وبلا سرير علاج.

ولا يعتبر البرش الترحيل القسري لسكان غزة مجرد نزوح، بل “إنه إعدام بطيء لجيل كامل، حيث تتحول الخيمة إلى قبر مؤجل، وحيث يكتب الأطفال بأجسادهم فصول الوباء القادم. غزة.. مخيم على حافة البحر وهاوية الموت”، بحسب ما كتب ذات مساء، مؤكدا أن سلطات الاحتلال انتقلت في تعاملها مع القطاع من التجويع إلى “هندسة المجاعة”.

في غزة يموت الناس في الشوارع والطرقات دون علاج. فالمدينة بكاملها تحولت إلى مخيم، وإلى خيام متلاصقة كالأجساد المرهقة، وأطفال يتنفسون الغبار بدل الهواء، ويشربون ماء ملوثا بالملح بدل الحياة.

في مواجهة الجنون

في هذه الكثافة الخانقة، كل خطوة تحمل قلقا وخوفا ومصيرا مجهولا، فالموت يتربص بين الخيام وفي المباني القليلة المتبقية في القطاع و”الاحتلال المختل عقليا، والذي أصبح قادته فاشيين ونازيين ويستمتعون بقتل وإبادة شعبنا، بل يطلقون على المناطق التي يبيدون سكانها ويدمرونها تماما، مناطق خضراء، وهذا قمة الجنون”، يقول المدير العام لوزارة الصحة في غزة.

ويضيف “ما يحدث في قطاع غزة أكبر من مصطلح الإبادة الجماعية والتطهير العرقي”، فهو يستهدف جميع الأراضي الفلسطينية وكل مكونات الشعب الفلسطيني عبر الحرمان من الغذاء والدواء والماء، وبالرصاص والجوع والمرض، و”تدمير المنظومة الصحية بالكامل، فهي ليست حربا عابرة، بل جريمة وإبادة مزدوجة تستهدف الجسد والعقل”.

لا ينتظر البرش، الصامد في الصفوف الخليفة، شيئا من العرب فقد “فقدنا الأمل في حكام العرب ومش مستنين حاجة غير من ربنا!”.

ولكن غزة لم يبتلعها البحر كما تمنى رابين، فقد بقيت صامدة تداوي جراحها وغربتها ووحدتها، في وقت يواصل فيه الدكتور منير البرش ارتداء المعطف الطبي الأبيض وقد بحّ، وغارت عيناه، واختفى بريقهما، وأغلقت جميع الأبواب إلا باب السماء. لكنه لا يرفع الراية البيضاء، بل يواصل القتال.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version