أنقرة – تتجه تركيا نحو تشديد قبضتها القانونية على سوق المراهنات (قطاع اقتصادي يعتمد على توقع نتائج الأحداث)، مع اقتراب إقرار حظر شامل لإعلانات المقامرة، في خطوة تهدف إلى إخضاع هذا النشاط لقيود مماثلة لتلك المفروضة على الكحول والتبغ. يأتي هذا التوجه في ظل تصاعد ملحوظ في الإقبال على المراهنات خلال السنوات الأخيرة، خاصة بين الشباب والقاصرين، ما دفع الحكومة إلى التحرك لاحتواء الظاهرة والحد من آثارها الاجتماعية والصحية.

تصاعد ظاهرة المراهنات ودعوات للتشديد الرقابي

شهدت تركيا ارتفاعًا ملحوظًا في حجم المراهنات خلال السنوات القليلة الماضية، مما أثار قلقًا متزايدًا لدى السلطات. هذا الارتفاع لم يقتصر على البالغين، بل امتد ليشمل فئات عمرية أصغر، بما في ذلك المراهقين والقاصرين، مما زاد من الضغوط على الحكومة لاتخاذ إجراءات أكثر صرامة. وتشير الإحصائيات إلى أن سهولة الوصول إلى منصات المراهنة عبر الإنترنت، بالإضافة إلى الترويج المكثف لهذه الخدمات، ساهمت في هذا الانتشار الواسع.

مشروع قانون جديد.. قيود صارمة على المراهنات

تعمل وزارات العدل والداخلية والأسرة بشكل متوازٍ على إعداد مشروع قانون يتضمن إجراءات صارمة لمنع الفئة العمرية بين 15 و18 عامًا من الوصول إلى منصات المقامرة. ومن المتوقع أن يُحال هذا المشروع إلى البرلمان التركي في القريب العاجل. يهدف القانون الجديد إلى تنظيم قطاع المراهنات بشكل أكثر فعالية، وتقليل الأضرار المحتملة على المجتمع، خاصةً على الشباب. كما تتضمن المساعي التشريعية حملة أمنية وقضائية متصاعدة ضد شبكات المراهنات غير القانونية، والتي كشفت عن تورط شخصيات رياضية وإعلامية في الترويج لهذا النشاط المحظور.

حماية المجتمع: الدافع الرئيسي وراء التشديد

ينطلق التوجه التركي نحو حظر إعلانات المراهنات عبر الإنترنت من مجموعة دوافع متشابكة، تتلاقى جميعها في هدف مركزي وهو حماية المجتمع، وخاصة الفئات الأكثر هشاشة. على الصعيدين الاجتماعي والصحي، ترى أنقرة أن الانتشار السريع للمقامرة بين الشباب يمثل مصدر قلق متزايد. وقد أظهرت تقارير جمعية الهلال الأخضر انخفاض سن الانخراط في المقامرة إلى حوالي 15 عامًا. كما كشف تقرير الجمعية لعام 2025 أن واحدًا من كل 10 أتراك فوق سن 15 عامًا خاض تجربة المراهنة ولو مرة واحدة، وهو مؤشر اعتبره المختصون بمثابة ناقوس خطر.

تلاعب بنتائج المباريات وتأثيره على الرأي العام

بالإضافة إلى البعد الاجتماعي، ساهمت التطورات الأخيرة في القطاع الرياضي في زيادة حدة القلق الرسمي. فقد أعادت فضيحة التلاعب بنتائج المباريات والمراهنات غير القانونية داخل كرة القدم التركية الملف إلى واجهة الاهتمام السياسي. وكشفت التحقيقات الموسعة عن تورط عشرات الحكام والمسؤولين الرياضيين في شبكات مراهنات محظورة، مما أسفر عن إيقاف 149 حكمًا ومساعدًا واعتقال لاعبين ومسؤولي أندية.

حجم سوق المراهنات والإجراءات الأمنية

حذر وزير الداخلية علي يرلي قايا من أن سوق المراهنات غير القانونية باتت تقترب من ضعف حجم القطاع القانوني المنظم. وقد بلغت تعاملات القطاع القانوني المنظم حوالي 590.9 مليار ليرة تركية خلال عام 2024 عبر منصة المراهنات الحكومية. وكشف الوزير عن مصادرة أصول تزيد قيمتها على 15.8 مليار ليرة خلال عمليات أمنية استهدفت شبكات المراهنات بين مطلع 2024 وخريف 2025.

آليات الحظر: نطاق واسع وشامل

ترتكز خطة حظر إعلانات المراهنات على حزمة متكاملة من الآليات التنظيمية والرقابية. لا يقتصر الحظر على تضييق محتوى الإعلان أو تقييده، بل يهدف إلى تجريم الظهور الدعائي للمراهنات بشكل كامل في الفضاء العام. يتجه التشريع الجديد لتوسيع نطاق المنع الإعلاني ليشمل جميع أشكال الترويج للمقامرة، عبر التلفزيون والراديو والصحف واللوحات الطرقية، وصولًا إلى المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي. وبذلك، ستُدرج إعلانات المراهنات ضمن الفئة نفسها التي يخضع لها الترويج للكحول والتبغ، مما يعني حظرًا شاملاً لأي حضور دعائي لهذا النشاط.

العقوبات الرادعة وتفعيل الرقابة

ولتأمين تنفيذ فعال لهذه القيود، يُنتظر أن تُمنح الجهات الرقابية صلاحيات أوسع، وفي مقدمتها مجلس الإعلانات التابع لوزارة التجارة. ستشمل العقوبات غرامات مالية مشددة، والحجب السريع للمحتوى المخالف، وصولًا إلى إغلاق الحسابات أو المنصات التي تكرر انتهاك الحظر.

“تطبيع القمار” وتحولات اجتماعية

ترى الباحثة الاجتماعية في جامعة الأناضول، إيسون دورداك، أن انتشار المراهنات بين الشباب في تركيا لا يعود إلى خلل تشريعي أو ضعف رقابي فحسب، بل يعكس تحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية أعمق. وتوضح أن انسداد الأفق الاقتصادي وتراجع فرص العمل وضعف القدرة الشرائية دفعا الكثير من الشباب للتعامل مع المراهنات بوصفها “وعدًا مختصراً” بالخلاص المالي. وتشير إلى أن البيئة الرقمية وخطاب الربح السريع ساهمت في تطبيع القمار داخل الوعي الشبابي، عبر تقديمه كامتداد للمتعة أو المهارة.

قبول واسع وتحديات التطبيق

يرى المحلل السياسي مراد تورال أن مشروع حظر إعلانات المراهنات يحظى بقبول سياسي وشعبي واسع، مما يجعل تمريره في البرلمان مسألة وقت. ومع ذلك، يحذر من تحديات تنفيذية معقدة، في مقدمتها طبيعة الفضاء الرقمي المتغير وقدرة شبكات المراهنات غير القانونية على التحايل. ويضيف أن فعالية الحظر ستتوقف بدرجة كبيرة على مستوى تعاون منصات التواصل ومحركات البحث في إزالة المحتوى المخالف.

في الختام، يمثل تشديد الرقابة على سوق المراهنات في تركيا خطوة مهمة نحو حماية المجتمع، وخاصة الشباب. ومع ذلك، فإن النجاح الكامل لهذه الإجراءات يتطلب تضافر الجهود وتكامل السياسات، بما في ذلك تعزيز التوعية، وتوفير فرص اقتصادية أفضل، ومواجهة التحديات التي يفرضها الفضاء الرقمي المتطور. هل ستنجح تركيا في الحد من انتشار هذه الظاهرة؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version