يُشكل القادة الشعبويون والاستبداديون الآن مسار السياسة العالمية.. وعندما يفقد رجل قوي السلطة، يصبح استقرار النظام السياسي بأكمله الذي بُني حوله، في خطر
هذا ما خلص إليه جدعون راتشمان، كبير معلقي الشؤون الخارجية بصحيفة فايننشال تايمز، في كتابه “الرجال الأقوياء.. كيف يُهدِّد تقديس القائد الديمقراطيةَ حول العالم؟”، الذي وصفه المنظر الأميركي في مجال الجغرافيا السياسية هال براندز بأنه الكتاب الأفضل في موضوعه.
ظاهرة عودة الرجل القوي
شهد النظام الدولي خلال العقدين الأخيرين تحوّلًا في نمط القيادة السياسية، أعاد إلى الأذهان ظواهر كان يُظن أنها انتهت بانتصار الليبرالية الغربية مع تفكك الاتحاد السوفياتي. بدلاً من انتشار نموذج القائد الذي يعتمد على العمل المؤسسي، تصاعد نمط القيادة المتمحورة حول الزعيم الفرد، التي تستمد شرعيتها من الكاريزما الشخصية بدلاً من الحوكمة أو البرامج الانتخابية.
القادة الأقوياء وسماتهم المشتركة
برزت ظاهرة القادة الأقوياء في طيف متنوع من الدول، من الولايات المتحدة ذات النظام الديمقراطي، إلى الصين ذات الحزب الواحد، مرورًا بروسيا والهند وإسرائيل. وتطرح هذه القيادات مضامين متشابهة مثل مهاجمة النخب، والوعد بتحقيق الرخاء وجعل البلد عظيمة مجددًا، واتهام المعارضة بالكذب، وشيطنة الصحافة والقضاء، وتغيير القوانين وتعديل الدستور لمد فترات الحكم.
كيف أثرت الأزمة المالية لعام 2008 على صعود القادة الأقوياء؟
يجادل جدعون راتشمان بأن ظاهرة القادة الأقوياء صعدت كنتيجة مباشرة لفقدان الثقة بالمنظومات السياسية التي صاغت العالم بعد الحرب الباردة. الأزمة المالية في عام 2008 كانت لحظة الانكشاف الأولى، إذ أدركت الطبقات الوسطى في الغرب أن الأسواق العالمية التي بُشّر بها باعتبارها طريقًا نحو الازدهار؛ يمكن أن تتحول بين ليلة وضحاها إلى مصدر انهيار.
نموذج بوتين: استعادة الدولة القوية
في روسيا، مثّل فلاديمير بوتين أول تعبير جليّ عن عودة الرجل القوي في القرن 21. استطاع بوتين أن يوظف الانهيار السوفياتي في بناء شرعية تقوم على استعادة الدولة القوية، فأعاد المركزية إلى الكرملين، وأخضع طبقة رجال الأعمال إلى السلطة السياسية.
شي جين بينغ: تعزيز السلطة الفردية
في الصين، سعى الرئيس شي جين بينغ منذ توليه السلطة عام 2012 إلى دمج الحزب والدولة في شخصه، فألغى في عام 2018 تحديد فترة الرئاسة بفترتين، ومركز السلطة في يده بوصفه الأمين العام للحزب الشيوعي ورئيس الدولة والقائد الأعلى للجيش.
تطبيقات وظواهر القادة الأقوياء
- دونالد ترامب: تجسيد للشعبوية في الولايات المتحدة، استندت على الإحساس بفقدان المكانة الدولية، والتحولات الديمغرافية التي أثارت خوف الطبقة البيضاء.
- ناريندرا مودي: قائد قومي هندوسي، وظف القومية الهندوسية كمشروع دولة، وأعاد تعريف العلاقة بين الدين والسياسة.
- بنيامين نتنياهو: نموذج مختلف من زعامة الرجل القوي، وظف الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي كوسيلة للبقاء، وأعاد تعريف العلاقة بين الدين والدولة.
سمات مشتركة بين القادة الأقوياء
تتلخص السمات المشتركة بين هؤلاء القادة في:
- مركزية الشخص في مقابل المؤسسة.
- الاعتماد على خطاب الهوية.
- استخدام الأدوات الديمقراطية أو القانونية لتكريس البقاء في الحكم.
التحديات والنتائج المحتملة
رغم نجاح هؤلاء القادة في تعبئة الجمهور، إلا أنهم غالبًا ما يُضعفون مؤسسات الدولة التي يعتمدون عليها، ويخلقون حولهم نظامًا هشًا قائمًا على الولاء الشخصي. كما أن الاعتماد المفرط على الكاريزما يجعل النظام عرضة للاضطراب عند غياب الزعيم.
الخلاصة
تعبر ظاهرة القادة الأقوياء عن تحوّل أعمق في علاقة المجتمعات المعاصرة بالدولة، وتحمل تناقضاتها في داخلها. هذه الموجة من صعود القادة تحمل في طياتها بذور زوالها، حيث يعتمد استقرارهم على استمرار الكاريزما والخطاب القوي، وفي نهاية المطاف، فإن مستقبل هذه النظم يبقى مرتبطًا بقدرة القادة على معالجة الأزمات الجوهرية التي تواجه دولهم.


