بنما سيتي- وسط غابات استوائية كثيفة وشواطئ ساحرة مطلة على المحيط الأطلسي والبحر الكاريبي، تقف قاعدة شيرمان العسكرية السابقة بقعةً جغرافية إستراتيجية جمعت يوما بين مظاهر الهيمنة الأميركية، وأسراب الطائرات المقاتلة، وتشكيلات المدرعات الثقيلة، ضمن مهمة تأمين قناة بنما ثاني أهم الممرات المائية في العالم.
المكان الذي احتضن آلاف الجنود الأميركيين عقودا، تحول لاحقا إلى منطقة مهجورة تحرسها فقط الأشجار الاستوائية، وهو يشهد اليوم تحولات حساسة في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية، وتصريحات أميركية عالية السقف بشأن مستقبل القناة وموقعها الحاسم في صراعات النفوذ الدولية، وعلى رأسها التنافس مع الصين.
رغم الجاهزية العسكرية والبنية التحتية المتقدمة التي تركتها الولايات المتحدة في قاعدة شيرمان، فإن بنما والتزاما بمعاهدة الحياد الخاصة بالقناة، لم تستثمر هذا الموقع عسكريا، بل اكتفت بوضع شرطي واحد فقط عند مدخل القاعدة، كجزء من سياستها الثابتة بعدم وجود جيش نظامي تقليدي.
إلى جانب شيرمان، تبدو قواعد أمادور وكلايتون أيضا شواهد صامتة على الحضور العسكري الأميركي الهائل الذي استمر حتى عام 1999، بهدف تأمين القناة وحماية المصالح الأميركية المرتبطة بها.
لكن الملف عاد إلى الواجهة من جديد بعد أن أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب تصريحات مثيرة في خطاب تنصيبه في 20 يناير/كانون الثاني الماضي، دعا فيها صراحة إلى استعادة السيطرة على القناة “بكل الوسائل”، بما فيها العسكرية، في ما وصفه كثيرون بعودة اللهجة الاستعمارية.
زيارات ورسائل
لم تتأخر الاستجابة الأميركية، حيث كانت بنما أولى وجهات وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث بعد تنصيب ترامب، وهدفت الزيارة إلى فتح صفحة جديدة من التعاون العسكري، وسط مخاوف أميركية متزايدة مما تصفه واشنطن بـ”النفوذ الصيني المتصاعد” في هذا البلد الصغير ذي الأهمية الجيوسياسية الكبرى.
وفي حديثه للجزيرة نت، أوضح مسؤول عسكري أميركي سابق -طلب عدم الكشف عن هويته- أن “القلق الحقيقي داخل البنتاغون هو أن تمتلك الصين، بنفوذها الاقتصادي في بنما، القدرة على تعطيل حركة الملاحة في القناة إذا اندلعت مواجهة واسعة مع واشنطن”.
من جهته، أعرب الخبير القانوني البنمي ألونسو إيلوسيا عن صدمة الرأي العام المحلي من تصريحات ترامب، قائلا للجزيرة نت، “شعرنا بالقلق الشديد، فلم يسبق أن تلقينا أي تحذير أو مؤشر على هذا الموقف الأميركي الجديد. الولايات المتحدة هي حليفنا الأهم، وإذا كان هناك تهديد حقيقي من الصين، فنحن بحاجة لمعلومات موثقة وليس تصريحات فضفاضة”.
عودة أميركية من بوابة “الحياد”
زيارة هيغسيث، وتعد الأولى من نوعها منذ زيارة دونالد رامسفيلد عام 2004، ركزت على قضايا الأمن والدفاع البحري، وأسفرت عن توقيع وثيقتين مهمتين مع الجانب البنمي: الأولى مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون الأمني، والثانية إعلان مشترك بشأن حماية القناة وتشغيلها.
وبموجب التفاهمات الجديدة، سمح للقوات الأميركية بالوصول المؤقت إلى ثلاث قواعد سابقة: “بنما باسيفيكو” (قاعدة هوارد الجوية)، و”رودمان” البحرية في بالبوا، و”شيرمان” الجوية في كريستوبال، دون تمركز دائم، احتراما لوضع الحياد المنصوص عليه في معاهدات 1977.
لكن هذه الخطوة أثارت نقاشا داخليا واسعا في بنما. وفي حديث للجزيرة نت، قال سائق الأجرة البنمي ألبرتو لوكاس، والذي كان ينقل زائرين إلى قاعدة شيرمان “صحيح أننا لا نمتلك جيشا، لكن لدينا أكثر من أربعة ملايين مواطن مستعدون للدفاع عن سيادة القناة، إذا ما فكر ترامب في العودة بقوة السلاح”.
ويرى مراقبون أن الولايات المتحدة، رغم انسحابها العسكري الرسمي عام 1999، لم تتخل فعليا عن مهمة تأمين القناة، وواصلت مراقبتها من كثب بأدوات مختلفة، منها المناورات المشتركة.
مسؤولية الحماية
وفي مقابلة للجزيرة نت، قال خايمي ترويانو، المتحدث الرسمي باسم هيئة إدارة قناة بنما، إن “أمن القناة مضمون بموجب القانون الدولي، ولدينا قوات أمن وشرطة تتولى مسؤولية الحماية، بما يشمل المرافق والسفن العابرة”.
لكن ترويانو رفض الإفصاح عن أي دور أميركي غير معلن في تأمين القناة، رغم أن 40% من حاويات التجارة الأميركية تمر سنويا من هذا الممر الحيوي.
ورغم تأكيد هيغسيث على حياد القناة والتعاون الثنائي، فقد أشار في تصريح لافت إلى أن “تأمين القناة يجب أن يتم بالتعاون بين بنما والولايات المتحدة، وليس بين بنما والصين”، مشددا على أن “الصين لم تبن هذه القناة، ولا تديرها، ولن تستخدمها كسلاح في صراع النفوذ”.
عبء التاريخ
منذ أواخر القرن التاسع عشر، ظلت العلاقات البنمية الأميركية مرتبطة مباشرة بقناة بنما. ففي عام 1903، وبعد أيام من استقلال بنما، وقعت معاهدة “هاي-بوناو-فاريلا” إذ منحت واشنطن حق السيطرة على منطقة القناة إلى الأبد.
وظلت الولايات المتحدة تمارس سلطات واسعة على القناة والمنطقة المحيطة بها حتى عام 1999، تاريخ تسليم القناة رسميا إلى بنما، بموجب معاهدتي 1977، اللتين نصتا على تولي بنما إدارة القناة مع ضمان حيادها الدائم.
ومنذ ذلك الحين، نجحت بنما في تشغيل القناة بفعالية، وأكملت مشروع التوسعة التاريخي عام 2016، مما سمح بمرور سفن عملاقة من طراز “نيو بناماكس”، في خطوة عززت مكانة القناة عالميا وأفادت الولايات المتحدة خاصة.
بنما والقيادة الجنوبية الأميركية
تندرج بنما وقناتها ضمن نطاق القيادة الجنوبية الأميركية (USSOUTHCOM)، التي تنظم مناورات “بانامكس” الضخمة منذ عام 2003، بمشاركة دول متعددة لضمان أمن القناة وحرية الملاحة، بما يوضح أن التعاون العسكري بين واشنطن وبنما لم ينقطع يوما.
في هذا السياق، تبدو تصريحات ترامب عن “استعادة القناة” خارجة على المنطق بالنسبة للعديد من البنميين والمراقبين، الذين يرون أن بلادهم تحولت بعد عام 1989 إلى حليف إستراتيجي للولايات المتحدة، لا إلى “خصم مستهدف”.
وتزداد المخاوف البنمية مع تصاعد لهجة التهديد في خطابات ترامب، والتي شملت في ديسمبر/كانون الأول الماضي تلميحات ضمنية بالغزو، حين نشر تغريدة قال فيها “عيد ميلاد سعيد للجميع، بمن فيهم جنود الصين الرائعون، الذين يديرون قناة بنما بمحبة، ولكن بشكل غير قانوني”.
رغم أن الواقع ينفي نفيا قاطعا أي وجود عسكري صيني في بنما، فإن مثل هذه التصريحات أثارت قلقا شعبيا واسعا، وأعادت إلى الأذهان ذاكرة الاحتلال، لتفتح من جديد ملف السيادة على القناة، وتطرح أسئلة ملحة عن حدود النفوذ الأميركي ومآلاته في أميركا الوسطى.