في عالم يشهد أزمة طاقة متزايدة، يبرز سؤال حاسم: هل يمكن استعادة جزء من الحرارة الهائلة المهدرة يوميًا في مليارات الأجهزة حول العالم؟ تُهدر كميات كبيرة من الطاقة على شكل حرارة من السيارات وأجهزة التلفزيون والحواسيب وغيرها، ولكن دراسة جديدة قد تُحدث ثورة في طريقة تعاملنا مع هذه الطاقة المهدرة، وتُعيد تعريف حدود فيزياء الحرارة التي عرفناها لعقود.
وفقًا للباحثين، يتم إهدار ما يعادل إجمالي استهلاك الطاقة لـ 15 دولة سنويًا على مستوى العالم. تحدث هذه الخسارة بشكل أساسي بسبب القيود الفيزيائية التي تحكم كفاءة المحركات الحرارية، والتي تُعرف باسم “حدّ كارنو”. هذا الحد يفرض قيودًا صارمة على كمية الطاقة التي يمكن تحويلها من الحرارة إلى عمل مفيد.
كفاءة محركاتنا بدائية
وضع المهندس الفرنسي سادي كارنو هذا الحد عام 1824، موضحًا أن الكفاءة القصوى لأي محرك حراري تعتمد على الفرق بين درجتي الحرارة. بمعنى آخر، كلما زاد الفرق بين المصدر الساخن والبارد، زادت الكفاءة. ومع ذلك، فإن المحركات الحالية غالبًا ما تفقد كفاءتها بسبب ارتفاع درجة حرارة الأجزاء التي يفترض أن تكون باردة، مما يقلل من هذا الفرق الحاسم.
تعتمد السيارات على دورات تبريد معقدة، بما في ذلك المبردات والمراوح، للحفاظ على درجة حرارة المحرك ضمن نطاق تشغيلي فعال. هذه الأنظمة تهدف إلى منع ارتفاع درجة حرارة الأجزاء الباردة، وبالتالي الحفاظ على الفرق الحراري الضروري لإنتاج الطاقة. لكن حتى مع هذه الأنظمة، لا يزال معظم احتراق الوقود (حوالي 70-80%) يضيع على شكل حرارة.
اختراق الحاجز الكوني
تُقدم الدراسة الجديدة، المنشورة في دورية “كوميونيكيشنز فيزيكس”، نهجًا مبتكرًا يتجاوز قيود حدّ كارنو التقليدي. يعتمد هذا النهج على استخدام حالة كمومية خاصة تسمى سائل توموناغا-لوتينجر، حيث تتحرك الإلكترونات في بُعد واحد فقط. في هذه الحالة، تبقى الطاقة منظمة بشكل استثنائي، مما يمنع تحولها إلى “ضوضاء حرارية” غير قابلة للاستخدام.
يتميز سائل توموناغا-لوتينجر بقدرته على الحفاظ على تنظيم الطاقة، حيث لا تنتشر الحرارة بشكل عشوائي. بالإضافة إلى ذلك، يتفكك الإلكترون إلى جزأين مستقلين، مما يحافظ على “طبقات” منتظمة من الطاقة. هذا التنظيم يسمح باستعادة كمية أكبر من الطاقة من الحرارة المهدرة.
استخدم الباحثون نقطة كمومية، وهي جزيء نانوي، لتحويل الطاقة المنظمة إلى كهرباء. تعمل النقطة الكمومية كمرشح دقيق للطاقة، حيث تسمح فقط للإلكترونات ذات الطاقة المحددة بالمرور، مما يزيد من كفاءة التحويل. أظهرت التجارب زيادة بنسبة 160% في الجهد الكهربائي الناتج مقارنة بالحالات الحرارية العادية.
تطبيقات محتملة
تتضمن التطبيقات المحتملة لهذه التقنية الجديدة محركات السيارات، وأنظمة العادم، ورقائق الحاسوب، ومحطات توليد الطاقة. يمكن أن يؤدي استعادة جزء من الحرارة المهدرة إلى تقليل استهلاك الطاقة العالمي وانبعاثات الكربون بشكل كبير. استعادة الحرارة يمكن أن تُحدث ثورة في كفاءة الطاقة.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تساعد هذه التقنية في حل مشكلة ارتفاع درجة الحرارة في الأجهزة الإلكترونية، مما يقلل من الحاجة إلى أنظمة تبريد مكلفة ومعقدة. الطاقة الحرارية المهدرة يمكن أن تصبح مصدرًا قيمًا للطاقة المتجددة.
تغيير خريطة الطاقة
على الرغم من أن هذه الدراسة تمثل تقدمًا كبيرًا، إلا أن تطوير هذه التقنية على نطاق واسع لا يزال يواجه تحديات. يتطلب الأمر مزيدًا من البحث والتطوير لتحسين كفاءة النقط الكمومية وتوسيع نطاق إنتاجها. كفاءة الطاقة هي الهدف النهائي.
الخطوة التالية هي إجراء المزيد من التجارب لتحديد أفضل المواد والتصاميم لتحقيق أقصى قدر من استعادة الحرارة. كما يجب تقييم التكلفة والجدوى الاقتصادية لهذه التقنية قبل تطبيقها على نطاق واسع. من المتوقع أن تستغرق هذه العملية عدة سنوات من البحث والتطوير الإضافي.
إذا نجحت هذه الجهود، فقد نشهد تحولًا جذريًا في طريقة توليد واستخدام الطاقة. قد تصبح الحرارة المهدرة مصدرًا رئيسيًا للطاقة المتجددة، مما يقلل من اعتمادنا على الوقود الأحفوري ويساهم في تحقيق مستقبل أكثر استدامة. الحرارة المهدورة قد تكون الحل.


