في قلب الصحراء الكبرى، على بعد 800 كيلومتر جنوب القاهرة، يكمن موقع أثري فريد يكشف عن أقدم الأدلة على اهتمام الإنسان بعلم الفلك. أثارت دائرة نبتة بلايا الحجرية، التي يعود تاريخها إلى أكثر من 7000 عام، دهشة العلماء، وتُظهر كيف سعى الإنسان القديم إلى فهم الزمن والكون من خلال مراقبة النجوم. هذا الكشف يغير فهمنا لتاريخ علم الفلك والنطور البشري.

تم اكتشاف هذا الموقع في ستينيات القرن الماضي أثناء عمليات الإنقاذ الأثرية التي سبقت بناء السد العالي في أسوان. بينما كانت اليونسكو تركز على إنقاذ المعابد الكبرى، بدأ عالم الآثار فريد ويندورف في البحث عن آثار أقدم لوجود الإنسان في المنطقة، وهو ما قاده إلى نبتة بلايا.

ميلاد مرصد من الرمال

بدأت القصة الفعلية في عام 1973، عندما لفت انتباه دليل بدوي، عيد، مجموعة من الحجارة الضخمة المنتصبة بشكل غريب وسط الكثبان الرملية. قاد عيد ويندورف وفريقه إلى الموقع، الذي تبين أنه قاع بحيرة قديمة، مما يشير إلى أن الحجارة لم تكن طبيعية بل وُضعت عمدًا.

بعد سنوات من الحفريات والدراسات، اكتشف الفريق دائرة تتكون من ستة صفوف من الحجارة البازلتية السوداء، مصطفة بانتظام حول مركزها. لم يكن هذا الترتيب عشوائيًا، بل بدا وكأنه يشير إلى نقاط محددة في الأفق.

السماء الأولى وعلم الفلك القديم

قام عالم الفيزياء الفلكية والآثار، جاي ماك كيم مالفيل، بتحليل دقيق لاتجاهات الحجارة، وخلص إلى أنها تتوافق مع مواقع شروق النجوم في عام 4800 قبل الميلاد. وأشار إلى محاذاة دقيقة نحو بعض النجوم اللامعة مثل الشعرى اليمانية.

وكانت الشعرى اليمانية تحديدًا مهمة جدًا، حيث كان شروقها الاحتراقي مرتبطًا بقدوم موسم الأمطار، وهو حدث بالغ الأهمية لحياة الرعاة والزراعة في المنطقة. يعتقد الباحثون أن هذه المعرفة الفلكية ربما أسهمت في تطوير التقويم المصري القديم.

محاذاة مع النجوم والكواكب

بالإضافة إلى الشعرى اليمانية، رصدت الحجارة محاذاة مع نجوم أخرى مثل السماك الرامح، وألفا قنطورس، بالإضافة إلى بعض النجوم في كوكبة الجبار. هذه المحاذاة تشير إلى أن سكان نبتة بلايا كانوا يراقبون حركة النجوم والكواكب بانتظام.

لم يقتصر الأمر على النجوم، بل تضمنت المحاور الحجرية أيضًا نقاط شروق وغروب الشمس في الانقلابين الصيفي والشتوي، مما يدل على فهمهم لطول السنة الشمسية وتحديد الفصول بدقة.

هذه القدرة على قياس الزمن بناءً على الظواهر الفلكية تعكس مستوى عالٍ من الملاحظة والتحليل لدى هذه المجتمعات القديمة، وهي سمة ميزت الحضارات اللاحقة.

نبتة بلايا: واحة بين الصحراء والمطر

خلال العصر الحجري الحديث، كانت نبتة بلايا واحة موسمية، تزدهر بالحياة عندما تمتلئ البحيرة بالمياه لمدة أربعة أشهر في السنة. أقام الناس هنا أكواخًا دائرية من الطين، وحفروا آبارًا، ومارسوا الرعي والزراعة البدائية.

عثر علماء الآثار على أدوات طحن للحبوب، وحُلي مصنوعة من عظام الأبقار، ونقوش لأسماك بحرية، مما يدل على وجود شبكة تجارية بعيدة المدى تصل إلى البحر الأحمر. ومع ذلك، فإن تغير المناخ في حوالي عام 3000 قبل الميلاد أدى إلى جفاف البحيرة وتدهور المنطقة.

اضطر السكان إلى الهجرة شمالًا نحو وادي النيل أو جنوبًا إلى النوبة، حاملين معهم معرفتهم ورموزهم الفلكية. يعتقد البعض أن هذه الهجرات كانت من العوامل التي ساهمت في نشوء حضارة مصر القديمة.

تُظهر الأبحاث المستمرة في نبتة بلايا أهمية الحفاظ على المواقع الأثرية في الصحراء الكبرى. ويهدف فريق البحث الحالي إلى إجراء دراسات إضافية لتحديد سياق موقع نبتة بلايا، وتأثيره على الثقافة السائدة في المنطقة. يتوقع الفريق نشر نتائج هذه الأبحاث في تقرير كامل بنهاية العام القادم، مما قد يكشف المزيد من الأسرار حول أصول علم الفلك.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version